العرش و الشرع
تحتل الكلمتان “العرش” و”الشرع” موقعًا أساسيًا في البناء المعرفي القرءاني، حيث يمثل كل منهما منظومة متكاملة تتصل بإدارة النظام الكوني والاجتماعي.
وكلا الكلمتين مؤلفتين من الأصوات ذاتها واختلاف ترتيبها في البنية الحركية، مما يجعل دراستهما من خلال التحليل اللساني ضرورة لفهم طبيعة العلاقة بين المركز والانتشار، بين الثبات والفتح.
وفي اللسان العربي يوجد ما يسمى مقلوب الكلمة يظهر كضد أو تغاير مثل “كتب وبكت” و ” در و رد) والقاعدة تقول : ” وبضدها تظهر الأشياء”.
انطلاقًا من هذا الأساس، تأتي هذه الدراسة لسبر أغوار المفهومين عبر تتبع دلالتهما ضمن نسق قرءاني صرف، وفق التحليل الحركي لأصوات الجذور، حيث تنبثق منهما دلالتان:
- مادية محسوسة.
- ومعنوية مجردة.
وكلاهما حق، محكوم بالمفهوم الجذري للكلمة.
التحليل اللساني الجذري
جذر “ع – ر – ش” (عرش)
- ع: يدل على بُعد وعمق وتركيز في الشيء.
- ر: يدل على تكرار واستمرار.
- ش: يدل على انتشار وتفشي وتفرق.
التحام هذه الحركات الصوتية يُنتج مفهومًا لسانيًا يقوم على:
“بؤرة عميقة متكررة التأثير، ينتج عنها تفشي وانتشار”.
وبذلك، فمفهوم “العرش” هو: مركز عميق، مستمر الأثر، مصدر للانتشار والنظام.
جذر “ش – ر – ع” (شرع)
- ش: يدل على انتشار وتفشي وتفرق.
- ر: يدل على تكرار واستمرار.
- ع: يدل على بُعد وعمق وتركيز.
التحام الحركات هنا يعطينا مفهومًا يقوم على:
“انتشار متكرر يقود نحو تمركز وعمق”.
بالتالي، فمفهوم “الشرع” هو: فتح متكرر للنظام يقود إلى نقطة غائية مركزة.
الدلالة المادية والمعنوية
العرش
- ماديًا:
بناء محوري عميق كالقبة أو العرش الحسي، الذي يتوسط بناءً ما ويمد أثره ونظامه حوله. - معنويًا:
مركز القرار والهيمنة والتنظيم الذي ينبثق منه الترتيب والنظام الكوني أو الاجتماعي.
الشرع
- ماديًا:
طرق ومسالك مفتوحة تمتد وتنتشر، لكنها في حركتها موجّهة نحو غاية أو مركز معين. - معنويًا:
منظومة من الأحكام والتوجيهات المنتشرة بين الناس، تسير بهم نحو تحقيق هدف مقصود ومنضبط.
الشواهد القرءانية
استخدام العرش
- (ٱلرَّحْمَٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ} (طه:5)
- فعل “استوي” يتعلق بفعل الله وليس بذاته، ويعني الاستقرار.
➔ تصوير لمركز السيطرة الربانية الذي يستوي عليه أمر الوجود كله. - (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) (الزمر:75)
➔ مركز محوري تجتمع حوله قوى التنفيذ والنظام، إيحاء بالانتظام والانطلاق منه.
استخدام الشرع
- (شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا) (الشورى:13)
➔ فتح مسار ديني واضح يُسلك للوصول إلى غاية التزكية. - (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) (المائدة:48)
➔ رسم مسالك متعددة للناس، كل مسلك يقود إلى هدف مركزي محدد بالهداية.
العلاقة بين العرش و الشرع
بالتأمل في المعنيين يظهر أن:
- العرش هو نقطة الارتكاز التي تنبعث منها القوى والنظم.
- الشرع هو نشر الطرق التي تقود نحو ذلك الارتكاز أو توازيه بالضبط.
من هذا التفاعل يتبين أن “الشرع” إنما يُفَصّل للناس طرقًا ليصلوا إلى مراكز الثبات، أي إلى منظومة “العرش” الكبرى.
الخاتمة
يبرز من التحليل أن مفهوم “العرش” و”الشرع” في القرءان يمثلان قطبين متكاملين في إدارة النظام الكوني والاجتماعي، من خلال مركزية التركيز والانتشار، وفق منطق لساني دقيق محكوم بحركة الجذر الأصلي للكلمة.
هذا التحليل اللساني يتيح تجاوز الفهم التراثي التقليدي، ليعيدنا إلى عمق التصور القرءاني الصافي للألفاظ.
اضف تعليقا