مفهوم ” العرش و الماء”
تُعد دراسة المفاهيم القرءانية الكبرى مسألة أساسية لفهم بنية النص القرءاني وتماسكه الداخلي.
ومن بين هذه المفاهيم، يأتي مفهوم ” العرش والماء” بوصفها من أهم اللبنات التي ترتبط بالخلق والحياة والنشوء المعنوي والمادي معًا.
إلا أن تناول مفهوم “الماء” عادةً ما اقتصر، في التراث والتفاسير، على الشرح السطحي الذي قيد معناه بالماء الطبيعي المعروف، متجاهلًا ما يحمله من بنية لسانية أعمق.
تهدف هذه الدراسة إلى تقديم قراءة لسانية علمية خالصة لمفهوم “الماء” وفق بنية الجذر ودلالاته الصوتية،
مع إبراز كيف يستخدم القرآن “العرش والماء” بدلالتين: مادية محسوسة، ومعنوية خفية،
وتحليل السياقات القرءانية بدقة بعيدًا عن التراث.
الجذر اللساني لكلمة “ماء”
كلمة “ماء” مشتقة من الجذر الثلاثي موه ( م- و- ه).
تحليل الحروف صوتيًا يعطي:
- م: حركة تدل على جمع وضم متصل.
- و: حركة تدل على امتداد وضم متصل مكانيًا.
- ه: حركة تدل على خفاء ولطافة في الامتداد.
➔ بناءً على هذا، الجذر “موه” يحمل دلالة تجمع لطيف ممتد بشكل متصل،
تسري فيه إمكانيات الحياة أو النشوء، بخفاء ودقة.
وليس منحصرا بالماء الفيزيائي بل يشمل كل وسط لطيف ممتد قادر على احتضان النشوء والحياة.
عند اشتقاق كلمة “ماء”، قلبت الواو إلى ألف، والهاء إلى الهمزة (ء)، التي تدل على ظهور خفيف لبداية أو شيء ينبثق،
مما يجعل “الماء” يعني: كيان ممتد لطيف يجمع ويحتضن النشوء، ويظهر بخفة وظهور لطيف.
دلالات استخدام “الماء” في القرآن
الدلالة المادية
في سياقات كثيرة، يأتي “الماء” ليدل على الماء الفيزيائي المحسوس الذي تقوم عليه حياة الكائنات الحية،
مثل قوله تعالى:
﴿وجعلنا من الماء كل شيء حي﴾ [الأنبياء:30]
هنا يشير النص إلى الوظيفة الحيوية للماء كمادة أساسية لاستمرار الحياة البيولوجية.
وتتفق هذه الدلالة مع بنية الجذر “موه”، حيث أن الماء بالفعل وسط لطيف يجمع ويحتضن الحياة.
الدلالة المعنوية
في سياقات أخرى، يستخدم القرآن “الماء” للدلالة على معانٍ خفية معنوية، مرتبطة بالطهارة الداخلية، والسكينة القلبية، والربط المعنوي للنفس.
مثال واضح على ذلك قوله تعالى:
﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ [الأنفال:11]
السياق هنا لا يتحدث عن طهارة جسدية ، بل عن تطهير داخلي معنوي،
تثبيت القلوب، وذهاب الأذى المعنوي (رجز الشيطان)، وربط الأقدام بالثبات.
➔ إذًا، “الماء” هنا يحمل وظيفة معنوية:
كوسط لطيف خفي يغمر الكيان الداخلي للإنسان بالتطهير والسكينة والثبات،
مما يتسق مع الجذر “موه” بمعناه اللطيف الممتد الحاضن للنشوء الجديد داخليًا.
تحليل نص {وكان عرشه على الماء)
قال تعالى:
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ [هود:7]
تحليل كلمة “العرش”
الجذر الثلاثي لكلمة “عرش” هو ع- ر- ش:
- ع: حركة تدل على بُعد أو عمق كامن.
- ر: حركة تدل على تكرار واستمرار.
- ش: حركة تدل على امتداد منتشر وتفرق.
➔ “العرش” هو بناء عميق الأساس، مستمر الامتداد، متشعب ومنتشر بهيمنة.
تركيب المعنى: “وكان عرشه على الماء”
“عرشه” أي النظام البنائي العميق المهيمن،
“على الماء” أي مستند على وسط لطيف ممتد خفي.
➔ المعنى الدقيق:
أن النظام البنائي الأول، قبل الخلق الظاهر للسماوات والأرض،
كان قائمًا على حالة من الامتداد اللطيف المتصل (ماء)، مثل الطاقة المظلمة
تهيئ لنشوء الكيانات المادية لاحقًا.
بالتالي، “الماء” في هذا النص ليس الماءً السائل،
بل هو حالة ممتدة لطيفة حاضنة لظهور الأنظمة العليا،
ويتوسط بين العناصر الأولية للخلق والوجود الكوني الكامل.
الاستنتاجات النهائية
- الجذر اللساني “موه” يدل على كيان لطيف ممتد يجمع ويحتضن النشوء.
- كلمة “ماء” في القرآن تأتي:
- بدلالة مادية محسوسة (ماء الحياة البيولوجية).
- ودلالة معنوية خفية (طهارة، سكينة، تثبيت داخلي).
- في نص {وكان عرشه على الماء):
- الماء يدل على حالة كونية لطيفة ممتدة،
- والعرش يدل على نظام بنائي مهيمن،
- مما يشير إلى أن بداية النشوء الكوني كانت مستندة إلى وسط لطيف حاضن مهيأ للخلق.
➔ يظهر أن القرآن يستخدم “الماء” كمفهوم أساسي جامع بين المادة والمعنى،
بطريقة لسانية دقيقة تنبع من الجذر ولا تحتاج إلى إسقاطات تفسيرية خارجية.
اضف تعليقا