منهجية دراسة منظومة أسماء الله الحسنى
يُعدّ الوعي بمنظومة أسماء الله الحسنى ركيزة محورية في بناء فهم سليم للقرآن والكون والوجود. فهذه الأسماء ليست مجرد صفات بل هي مفاتيح للتدبر وموازين للحكم على كل دراسة. ومنهج التعامل معها يجب أن ينطلق من مرجعية قرآنية صارمة ومنطقية، تُفصل بين ما هو توقيفي وما هو ظنّي، وبين ما هو ذاتي وما هو فعلي.
أولًا: أسماء الله توقيفية لا اجتهادية
القاعدة الأولى في دراسة الأسماء الحسنى هي أنها توقيفية، أي لا تُؤخذ بالعقل ولا بالرأي ولا بالاستحسان، بل تُستمد من النص القرآني فقط، كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180]، فـ”الأسماء الحسنى” تعني أنها أسماء محددة بنص، حسنة في ذاتها، ومناسبة لذات الإله. ولذلك لا يصح أن نشتقّ له اسماً من فعل، أو أن نصفه بما لم يصف به نفسه، لأن الله أعلم بنفسه وما يليق بجلاله. قال تعالى: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات: 180].
ومن هذا الأصل، يتبيّن أن أسماء مثل “المنتقم”، “الماكر”، “العادل”، “الضار”، “النافع”، و”الصبور”، ليست من أسماء الله الحسنى، لأنها لم ترد في القرآن كأسماء معرفة مستقلة لله، بل وردت في سياقات فعلية أو مضافة، فلا يجوز عدّها ضمن الأسماء الحسنى التوقيفية.
ثانيًا: التمييز بين الأسماء الذاتية والأسماء الفعلية تُقسم أسماء الله الحسنى في منهج قرآني دقيق إلى:
أسماء ذاتية: وهي التي تُشير إلى صفات لازمة لذات الله أزليًا، لا تتعلق بزمن ولا بخلق، كـ: الحي، القيوم، العليم، الحكيم، العزيز، القدوس… وهذه الأسماء لا تنفك عن الله أبدًا، لأنها من صميم ذاته الأزليّة، وتعبّر عن حقيقة وجوده المطلق.
أسماء فعلية: وهي المرتبطة بالفعل الإلهي المتجدد في العالم، أي تتعلّق بتعامله مع الخلق، مثل: الخالق، الرازق، المصوّر، المحيي، المميت، الغفّار… وهذه الأسماء تنبثق من الأسماء الذاتية، ولا تُفهم إلا في ضوءها. فالخلق مثلًا لا يكون إلا لمن كان حيًا قيومًا عالمًا قادرًا.
إذًا: الذاتي ثابت أزلي، والفِعلي متجدد ينبثق عنه، ولا يُفهم إلا في إطاره.
ثالثًا: منظومة الأسماء الحسنى هي المرجعية الحاكمة لفهم الوجود الله عز وجل لا يتعامل مع الوجود إلا من خلال أسمائه، فهي الوسيط المعرفي لضبط كل شيء:
الخلق يتم باسم الخالق
الرزق يتم باسم الرازق
الإحياء والإماتة يتم باسم القادر والعليم والخالق والحكيم
الغفران يتم باسم الغفور
قال تعالى: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الحشر: 24] فالوجود محكوم بهذه الأسماء، وكل ما يجري فيه لا يخرج عن دائرتها. وبالتالي، فإن أي دراسة كونية أو قرآنية تتجاهل هذه المنظومة فهي دراسة ناقصة ينبغي مراجعتها.
رابعًا: الضبط المنهجي لأسماء الله الحسنى وفق القرآن من أجل فهم سليم لأسماء الله الحسنى، يجب الالتزام بعدة ضوابط قرآنية دقيقة:
- ألا يُشتق اسم من فعل مجرد: مثل (الماكر، القاتل، الضار، الغاضب)، لأن الأفعال لا تنشئ أسماء إلا إذا وردت بنص صريح في القرءان.
مثال: (قاتلهم الله) لا يصح أن نشتق منه “القاتل” كاسم لله.
ألا يُؤخذ اسم من صيغة تفضيل أو مبالغة: مثل “خير الماكرين”، لا نقول إنه “ماكر”.
ألا يكون الاسم مركبًا أو مضافًا: مثل “ذو الجلال والإكرام”، فهذه صفة مضافة، وليست اسمًا مستقلًا.
أن يكون الاسم معرفًا بـ (أل) التعريف: مثل “العليم”، “القدير”، “الغفور”.
ألا يُؤخذ اسم من وصف الناس له واستحسانه، مثل العادل والجميل… بل فقط مما وصف به نفسه قال تعالى: {وَسَبِّحْهُ وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58]، ولم يسمِّ نفسه “الخبير بالذنوب”، بل “الخبير” فقط.
والعادل ليس من أسمائه فهو يحكم فوق العدل بالحكمة والرحمة
خامسًا: أثر أسماء الله الحسنى في تدبر القرآن والكون من يدرس القرآن دون مرجعية الأسماء الحسنى سيقع في الخلل، ومن يفسّر آية دون أن يراعي مقتضى كل اسم فيها ففهمه ناقص.
فمثلاً، في قوله تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة: 255] أي فهم للوجود يجب أن ينبني على أن الله “حي” أي أزلي دائم لا يموت، و”قيوم” أي قائم بنفسه مستغني عن غيره فهو الغني الحميد .
وبالتالي:
فهم الحياة لا يكون إلا في ضوء اسم “الحي”
فهم الخلق لا يكون إلا في ضوء اسم “الخالق”
فهم الرحمة لا يكون إلا في ضوء اسم “الرحمن الرحيم”
وأسماء الله متضامنة مع بعضها لا يُعزل اسم عن منظومة الأسماء كلها مثل أخ اسم الجبار والمتكبر{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }الحشر23 دون بقية الأسماء العليم الحكيم الرحيم الغني الحميد ….
الخاتمة
إن منظومة أسماء الله الحسنى ليست مجرد صفات، بل هي نظام إلهي حاكم للوجود والقرآن، وكل دراسة لا تبدأ من هذا النظام ولا تُوزن به فهي عرضة للخلل والانحراف. إن التفرقة بين الأسماء الذاتية والفعلية، وفهم العلاقة بينهما، يفتح بابًا لفهم دقيق ومتزن لمعاني القرآن وأحداث الكون، ويُرسّخ التوحيد الخالص في القلوب والعقول.
فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى… فَادْعُوهُ بِهَا، وليكن تدبرنا بها، وعلمنا قائمًا عليها.
اضف تعليقا