تأثير ولاية “دونالد ترامب” الثانية على السياسة العالمية
مع عودة “دونالد ترامب” إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية، شهد العالم موجة من التحولات العميقة امتدت إلى ما هو أبعد من السياسة الأمريكية، لتشمل إعادة صياغة العلاقات الدولية، وتغييرات جوهرية في البنى الاجتماعية والثقافية وحتى الدينية في مختلف أنحاء العالم، لم تكن رئاسته مجرد إدارة داخلية، بل تحوّلت إلى ظاهرة عالمية أثّرت على الخطابات العامة، وعلى طبيعة المؤسسات، وعلى أنماط التفكير داخل المجتمعات الديمقراطية والنامية على حد سواء.
يستعرض هذا المقال التأثير المتعدد الأبعاد لهذه الولاية، ويركز بشكل خاص على الأبعاد الثقافية والدينية والاجتماعية التي تفاعلت مع السياسات الترامبية.
أولاً: التأثير السياسي والدبلوماسي
- إعادة هيكلة التحالفات الدولية: عزّز “ترامب” من نهجه القومي في السياسة الخارجية، ما أدى إلى تغييرات جذرية في بنية التحالفات الدولية، خصوصًا مع الاتحاد الأوروبي، الناتو، ومنظمة التجارة العالمية. مثّل تفضيله الثنائي على التعددية لحظة تراجع في النظام العالمي الليبرالي، وشجع دولًا أخرى على تبني سياسات انعزالية مشابهة.
- صعود الشعبويات العالمية: ولّد نجاح “ترامب” نموذجًا سياسياً ألهم تيارات يمينية وقومية في العديد من الدول مثل ألمانيا، إيطاليا، والبرازيل، وصار الخطاب المعادي للهجرة، والرافض للعولمة، نموذجًا مكرّسًا تستحضره هذه التيارات لتبرير سياساتها المتشددة.
- نهاية الإجماع الغربي: أثارت مواقف “ترامب” حيال الحلفاء التقليديين تساؤلات حول جدوى الشراكات القديمة، مما أدى إلى اتجاه بعض الدول، خاصة في أوروبا، لتعزيز استقلالها السياسي والعسكري، بما في ذلك تنمية صناعات دفاعية ذاتية.
ثانيًا: التأثير الاقتصادي العالمي
- تصاعد النزعة الحمائية: أعاد “ترامب” إطلاق الحروب التجارية مع الصين وبعض الدول الأوروبية، مما أثر سلبًا على حركة التجارة العالمية وأعاد مفهوم الدولة الاقتصادية السيادية إلى الواجهة، وهو ما انعكس في فرض قيود على الاستيراد وتفضيل الإنتاج المحلي.
- أزمة سلاسل الإمداد: نتيجة سياساته الحمائية، زادت اختناقات سلاسل الإمداد العالمية، مما خلق أزمات في قطاعات متعددة مثل الإلكترونيات، والدواء، وصناعة السيارات.
- تقوية الشركات الكبرى وإضعاف الطبقة الوسطى: عبر تخفيضات ضريبية ضخمة لصالح الشركات الكبرى، تعززت قوة هذه الشركات، بينما تراجعت الحوافز والضمانات الاجتماعية، مما أدى إلى اتساع الفجوة الطبقية داخل أمريكا وأثر على السياسات الاقتصادية المقارنة في دول أخرى.
ثالثًا: التأثير الاجتماعي والثقافي والديني
- تفكك النسيج الاجتماعي وتعمق الاستقطاب: عززت خطابات “ترامب” من حالة الاستقطاب داخل المجتمع الأمريكي، وانتقلت عدواها إلى مجتمعات أخرى من خلال وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، و بات الانقسام بين التيارات الليبرالية والمحافظة أكثر حدة، وشهدت عدة دول تظاهرات واحتجاجات مماثلة للتي حدثت في أمريكا.
- تأثير على الخطاب الديني العالمي: أظهر “ترامب” تحالفًا غير مسبوق بين الدين والسياسة، خاصة مع التيار الإنجيلي الأمريكي. هذا النموذج حفّز حركات دينية محافظة في دول كأمريكا اللاتينية وشرق أوروبا على خوض العمل السياسي بجرأة أكبر. في المقابل، نشأت موجات رفض من الأقليات الدينية التي شعرت بالإقصاء، مما زاد التوتر الطائفي في بعض الدول.
- إعادة تعريف الهوية الثقافية: شجعت ولايته على بروز مفاهيم أكثر تشددًا عن الهوية القومية، ما أثّر في سياسات الهجرة والاندماج في أوروبا وأستراليا. باتت المجتمعات أكثر حذرًا من الاختلاف الثقافي، وتصاعدت النزعات العنصرية والتمييزية في الخطابات العامة.
- تشويه صورة الإسلام والمسلمين: أعادت سياساته المعادية للمهاجرين والمسلمين – كقرار حظر السفر من دول إسلامية – الصور النمطية القديمة إلى الواجهة، مما أسهم في تصاعد الإسلاموفوبيا في الغرب، وتعرض المسلمون لحملات إعلامية وسياسية عنيفة.
- نمو حركات المقاومة الثقافية: في مواجهة هذا المد المحافظ، نشأت حركات مضادة تدعو للمساواة، وحقوق الأقليات، والانفتاح الثقافي. أبرز هذه الحركات كانت ذات طابع شبابي، وانتشرت عبر الإنترنت، ودفعت لإنتاج فني وثقافي مضاد، خصوصًا في السينما والموسيقى والأدب.
- تحول الإعلام إلى ساحة استقطاب: كرّس “ترامب” عداءه للإعلام التقليدي، مما أدّى إلى فقدان ثقة واسعة بالجمهور تجاه الوسائل الإعلامية الكبرى، وتنامي منصات إعلامية بديلة مرتبطة بالأيديولوجيات. تحوّل الإعلام من ناقل للخبر إلى طرف في المعركة الثقافية.
خاتمة:
كانت ولاية “دونالد ترامب” الثانية أكثر من مجرد رئاسة؛ كانت لحظة تحوّل عالمي في معايير السياسة والاقتصاد والمجتمع والدين. أسهمت في تقويض اليقين بالنظام العالمي الليبرالي، وفتحت الباب أمام أنماط تفكير جديدة تميل إلى الانعزال والهوية الصلبة، لكنها في المقابل حفزت حركات مقاومة ثقافية واجتماعية شابة.
سيبقى هذا الفصل من التاريخ محفورًا ليس فقط في المؤسسات، بل في الوعي الجمعي لشعوب العالم، كمرحلة اشتباك حاد بين العولمة والانكفاء، بين التعددية والهوية، بين الانفتاح والانغلاق.
اضف تعليقا