نفي المقابلة بين ذات الخالق وذات الوجود وامتناع الحدّ في حق القيّوم
يُثار أحيانًا في عوالم الفلسفة واللاهوت العقلي تساؤلٌ يحمل في ظاهره براءة الاستفهام، ولكنه يُبطن إشكالًا عميقًا في بنية التصور الإنساني، وهو: “هل يمكن تصور مقابلة بين ذات الله (الخالق) وذات الوجود (المخلوق)؟”. هذا السؤال، إذا لم يُحط بسياج من الضبط الدقيق، يفترض ضمنيًا وجود طرفين متمايزين ومتقابلين: ذاتٌ خالقة وذاتٌ مخلوقة. مثل هذا الطرح يفتح الباب أمام الانزلاق نحو أوهام التشبيه أو التجسيم، أو نحو وضع حدود للذات الإلهية، الأمر الذي يتعارض بشكل جذري مع جوهر التوحيد الخالص ومع الأساس المنطقي لمفهوم القيّومية الإلهية المطلقة.
- فساد السؤال من أساسه المفهومي:
إن فكرة “المقابلة” بحد ذاتها تستلزم تحقق عدة شروط مفهومية لا تنطبق أبدًا على العلاقة بين الخالق والمخلوق:
- وجود جهتين أو طرفين: المقابلة تقتضي وجود شيئين يمكن وضعهما “أحدهما في مقابل الآخر”، وهذا يتطلب حيّزًا أو إطارًا يجمعهما. والله منزه عن الجهة والمكان.
- التمايز ضمن وجود مشترك: المقابلة تفترض وجود مستوى أو نوع من الوجود يتقاسمه الطرفان، ليتم التمييز بينهما ضمنه. والله وجوده واجبٌ قائم بذاته، والمخلوقات وجودها ممكنٌ قائم به، فلا اشتراك في أصل الوجود بهذا المعنى.
- إطار مرجعي للمقارنة (كالزمان والمكان): لكي تتم المقابلة أو المقارنة، نحتاج عادةً إلى إطار مشترك (زماني، مكاني، أو مفاهيمي) يسمح بذلك. والله متعالٍ عن الزمان والمكان وعن كل الأطر التي تحكم المخلوقات.
لهذه الأسباب، فإن السؤال عن المقابلة يحمل في طياته فرضيات فاسدة عند تطبيقه على الذات الإلهية.
- القيّومية الإلهية كدليل على بطلان المقابلة:
اسم الله “القيّوم” يحمل دلالة عميقة تُبطل فكرة المقابلة من جذورها. فالقيّوم هو القائم بنفسه، المُقيم لغيره. وهذا يعني أن الوجود المخلوق، وإن بدا لنا حادثًا ومستقلًا في ظاهره، إلا أنه يفتقر إلى القوام الذاتي. وجوده واستمراره ليسا نتيجة استقلال ذاتي، بل هما في حالة دائمة من التعلق والافتقار إلى الفعل الإلهي المستمر الذي يُقيمه ويحفظه.
وعليه، فالوجود المخلوق ليس “ذاتًا” قائمة بنفسها يمكن أن تقابل “ذات” الخالق. بل هو أشبه بالأثر الدال على المؤثر، أو التجلي الإرادي الصادر عن الإرادة الإلهية المطلقة والمستمر بقيوميته. فلا وجود لمخلوق “في مقابل” الخالق، بل كل الوجود المخلوق قائم “به”. - نقد قياس علاقة الخالق بالمخلوق على الصانع والمصنوع:
قد يلجأ البعض إلى قياس علاقة الله بخلقه على علاقة المهندس أو الصانع بما يصنعه، حيث يكون الصانع مباينًا ومغايرًا لمصنوعه. لكن هذا القياس يحمل عيوبًا جوهرية:
- الصانع البشري يعمل ضمن قوانين الوجود المادي والزماني، مستخدمًا أدوات ومواد موجودة مسبقًا.
- أما فعل الله في الخلق فهو إيجادٌ شيء بعد أن لم يكن (إبداع)، لا يخضع لزمان أو مكان، ولا يستلزم مادة سابقة أو أدوات. هو فعلٌ مباشرٌ بالإرادة والقدرة (“كن فيكون”).
إذًا، لا يمكن توصيف العلاقة بأنها مقابلة بين فاعل ومفعول بالمعنى المألوف في عالمنا المحدث. بل هي علاقة قيّومية فريدة، حيث لا يُدرك الخالق إلا من خلال آثار فعله الظاهرة في خلقه، مع التنزيه التام عن مشابهة هذا الفعل لأفعال المخلوقين.
- أصل نشأة الخلق: فعل الإرادة وتمايز الوجود:
إن ظهور الخلق في حيّز الوجود الفعلي ينشأ عن فعل إرادي إلهي محض. هذا الفعل ليس حدثًا زمنيًا بالمعنى الذي نألفه، بل هو نقطة التعيين الأولى (أو التخصيص) التي بها تبرز الممكنات من حيز الإمكان إلى حيز الوجود الفعلي، بمقتضى الإرادة الإلهية المطلقة. هذا الفعل لا يعني أن الخلق كان كامنًا كنموذج مسبق داخل الذات الإلهية، ولا أنه شارك الله في الأزلية.
هذا التعيين الإرادي يؤسس لوجود الخلق لافي مقابلالخالق، بل في مرتبة تالية له وجوديًا ومن حيث التبعية المطلقة (تحتية التعيين بالفعل الإلهي).
هنا يتضح التغاير الجذري في نمط الوجود، لا المقابلة بين ندّين:
- الخالق: وجوده واجب، أزلي أبدي، قائم بذاته، غني عن غيره.
- الخلق: وجوده ممكن (كان يمكن ألا يوجد)، حادث (له بداية)، قائم بغيره (بالله القيوم)، مفتقر إليه.
- العلم الإلهي الأزلي والخلق الفعلي:
علم الله أزلي، صفة ذاتية له، لا يشبه علمنا القائم على اكتساب الصور والمعلومات عن الأشياء. علمه تعالى ليس وعاءً يحتوي على “نماذج” أو “صور” للمخلوقات قبل خلقها.
فالخلق لا يصدر عن “تصور” ذهني مسبق بالمعنى البشري، بل هو فعل إرادة مباشر قائمٌ بالعلم والقدرة الإلهيين. علم الله الأزلي يسبق الخلق سبقًا وجوديًا ومنطقيًا (أي أن الله عليمٌ قبل أن يَخلق)، ويخلق فعليًا حينما تتعلق إرادته بالشيء.
الخاتمة:
بناءً على ما سبق، يتضح امتناع تصور أي “مقابلة” بين ذات الله وذات الوجود المخلوق، للأسباب التالية:
- المقابلة تقتضي وجود حدود وطرفين متمايزين ضمن إطار مشترك، والله منزه عن الحدود والأطر.
- الوجود المخلوق لا يمتلك قوامًا ذاتيًا يجعله ندًا أو طرفًا مقابلًا، بل هو قائم بالله وفي تعلق دائم به (القيومية).
- الفعل الإلهي في الخلق ليس كأفعالنا المقيدة بالزمان والمكان والأدوات، بل هو فعل إبداع وتجلٍ فريد لا يشبه شيئًا.
ولذلك، فإن التأكيد على:
❝ امتناع المقابلة بين ذات الخالق والمخلوق هو لازم أساسي من لوازم التوحيد العقلي السليم، كما أن نفي الحدود عن الله هو شرط ضروري لتجنب الشرك التصوري حتى في أدق مستويات الفهم العقلي. ❞
اضف تعليقا