حتمية البعث واليوم الآخر

         براهين علمية منطقية على استمرارية الوجود الإنساني
     
       إن قضية مصير الإنسان بعد الموت ليست مجرد تساؤل فلسفي تأملي، بل هي مسألة مركزية تتعلق بفهم حقيقة الوجود وغايته. إن العلم التجريبي، بمنهجه القائم على الملاحظة والاختبار الحسي، يقف عاجزًا بطبيعته عن الخوض في مسائل ما وراء المادة والزمان والمكان المعهودين. أما العلم الحقيقي، بمعناه الأشمل الذي يضم البرهان العقلي المنطقي – وهو أساس كل تفكير سليم وكل علم بما في ذلك الرياضيات – فإنه يقدم أدوات لا غنى عنها لإدراك الحقائق الكبرى. هذا المقال يهدف إلى إرساء حقيقة البعث واليوم الآخر كيقين ثابت، مستندًا إلى براهين علمية منطقية لا تقبل الجدل السليم، مؤكدًا أن الاختلاف حولها لا ينفي ثبوتها، بل يعكس تباينًا في القدرة على إدراك هذه البراهين أو التسليم بمقدماتها الضرورية.

البراهين العلمية-المنطقية على حتمية البعث واليوم الآخر:

  1. برهان الغائية الكونية :
    إن النظر العقلي المتأمل في نظام الكون، من الذرة إلى المجرة، وفي دقة الخلق وتركيب الكائنات الحية، وعلى رأسها الإنسان بما أوتي من وعي وإرادة وقدرة على إدراك المعاني الكلية، يكشف عن غائية واضحة وقصد محكم. إن القول بأن هذا النظام المحكم، وهذه الحياة الإنسانية الفريدة، تنتهي إلى العدم المطلق هو قول يتنافى مع أبسط مبادئ الحكمة والمنطق. فالحكمة تقتضي أن لكل فعل غاية، ولكل تصميم هدفًا، و خلق الإنسان بهذا التكريم والتعقيد لا يمكن أن يكون عبثًا ينتهي بالفناء، بل لا بد من غاية أسمى تتجاوز حدود هذه الحياة الدنيا، وهي تحقيق الكمال اللائق به في عالم آخر يفي بغايات الخلق. فالحياة الآخرة هي المقتضى المنطقي لغائية الخلق الإنساني والكوني. إن إنكارها هو إنكار للحكمة في الصنع، وهو ما يأباه العقل السليم.
  2. برهان استحالة الفناء المطلق للجوهر الإنساني:
    يقر العلم المادي بمبدأ بقاء المادة والطاقة وتحولها من شكل إلى آخر، وعدم فنائها المطلق. فإذا كانت العناصر المادية التي يتكون منها الجسم لا تفنى فناءً تامًا بل تتحول وتعود إلى دورات الطبيعة، فمن باب أولى أن الجوهر الإنساني اللطيف – النفس– وهي مناط الإدراك والتكليف والوعي بالذات، لا يمكن أن يكون مصيرها العدم المحض. إن القول بفناء الروح مع فناء الجسم هو جعل للأسمى والأشرف (النفس) تابعًا للأدنى والأخس (الجسد المادي المتحلل)، وهو عكس ما يقتضيه المنطق وترتيب مراتب الوجود. إن حقيقة النفس كجوهر مدرك ومفارق للمادة تقتضي بقاءها بعد تحلل الجسد، لتلاقي مصيرًا يتناسب مع طبيعتها وأفعالها.
  3. قانون التناقض الجدلي وتجلياته

أ. الهلاك والموت كتحول لا فناء:

  • الموت في العالم المشاهد هو انتقال من حالة إلى أخرى، وتحول من صورة إلى صورة، وليس فناءً مطلقًا. تحلل الجسد هو عملية حيوية تعيد عناصره إلى الطبيعة. فإذا كان هذا شأن المادة، فإن “موت” الإنسان لابد أن يكون انتقالًا لجوهره الواعي إلى طور آخر من الوجود يتناسب مع طبيعته النفسية، وليس انعدامًا كليًا. إن فكرة الفناء المطلق للوعي هي التي تمثل تناقضًا مع ديناميكية الوجود القائمة على التحول والاستمرار بصور مختلفة.

ب. الحق والباطل كحتمية للفرقان

  • إن إدراك العقل الإنساني للحق والباطل، والخير والشر، ليس مجرد انطباعات ذاتية، بل هو انعكاس لحقائق موضوعية. وجود هذه الثنائيات في الفكر والسلوك الإنساني يقتضي وجود عالم تتحقق فيه الغلبة المطلقة للحق على الباطل، والخير على الشر. وهذا لا يمكن أن يتم بصورة كاملة في هذه الحياة الدنيا المحدودة والمشوبة بالنقص. لذا، فإن وجود يوم آخر يتم فيه الفصل النهائي بين الحق والباطل هو ضرورة منطقية لتحقيق كمال هذه الثنائية.
  1. برهان النفس المفارقة للمادة

إن النفس الإنسانية، بما تتميز به من وعي بالذات، وقدرة على التفكير المجرد، وإدراك الكليات، وتجاوز حدود الزمان والمكان في تأملاتها، وحرية الإرادة، والشعور بالقيم الأخلاقية، هي جوهر يختلف اختلافًا بيّنًا عن الجسد المادي الخاضع لقوانين الفيزياء والكيمياء. فالجسد مركب وقابل للقسمة والتحلل، أما النفس فبسيطة (غير مركبة من أجزاء) وغير مادية، وبالتالي غير قابلة للتحلل بنفس الطريقة التي يتحلل بها الجسد. إن فناء الجسد لا يستلزم منطقيًا فناء النفس، بل هو تحرر لها من قيود الجسد لتستمر في وجود يتناسب مع طبيعتها الخالدة. هذا البرهان الذي أرساه فلاسفة كبار عبر التاريخ هو من أقوى البراهين العقلية على بقاء النفس بعد الموت.

  1. برهان الكمالات الإلهية:

 إن الإقرار بوجود خالق للكون يتصف بصفات الكمال المطلق – كالحكمة،  والرحمة، والقدرة، والعلم المحيط – يقتضي بالضرورة وجود اليوم الآخر.
* مقتضى الحكمة الإلهية: خلق الإنسان وإعطاؤه الوعي والقدرة على الاختيار، ثم إفناؤه دون غاية نهائية أو حساب، هو عبث يتنافى مع الحكمة الإلهية المطلقة. (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) – المؤمنون: 115.
* مقتضى العدل الإلهي: إن الحياة الدنيا، كما نشاهد، لا تتحقق فيها العدالة الكاملة دائمًا. فالظالم قد يفلت، والمظلوم قد لا يُنصف، والمحسن قد لا يُجزى جزاءه الأوفى. فالعدل الإلهي المطلق يقتضي وجود عالم آخر تُقام فيه موازين القسط، ويُوفّى كل إنسان ما كسب، خيرًا كان أو شرًا. (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) – الأنبياء: 47.
* مقتضى الرحمة الإلهية: إن رحمة الله الواسعة تقتضي أن لا يكون مصير خلقه الذين فطرهم على حب البقاء والكمال هو الفناء المطلق، بل أن يهيئ لهم سبيلاً إلى حياة أبدية تتحقق فيها السعادة لمن استحقها.
* مقتضى القدرة الإلهية: إن الذي خلق الإنسان ، وأنشأ الكون بعد أن لم يكن شيئاً لقادر على إعادة الخلق مرة أخرى. (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) – يس: 78-79. إن إنكار البعث هو إنكار لقدرة الله المطلقة، وهو محال عقلاً.

  1. برهان الفطرة الإنسانية والشوق إلى الخلود

إن الشعور الفطري الواعي بوجود حياة أخرى، والشوق الكامن في أعماق النفس الإنسانية إلى الخلود والعدل والكمال، هو دليل إضافي على حقيقة الآخرة. هذا الشعور الذي تجده متأصلًا في مختلف الثقافات والحضارات، وإن اختلفت صوره وتعبيراته، ليس مجرد وهم أو أمنية، بل هو كالبصمة الإلهية في النفس، تشير إلى أن الإنسان خُلق لأمر أعظم من هذه الحياة الفانية. إن وجود هذا الشوق الفطري العميق في كائن عاقل يستلزم وجود ما يشبعه، وإلا كان هذا الشوق عبثًا في طبيعة الخلق، وهو ما يتنافى مع الحكم، وهذا كمثل إحساس الإنسان بالعطش  يثبت وجود الماء  الذي يرويه فيقوم بطلبه والبحث عنه.

  1. مفهوم الأخلاق والقيم كحتمية للجزاء:
    إن وجود نظام أخلاقي يميز بين الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، ويُحمّل الإنسان مسؤولية أفعاله، هو حقيقة ثابتة يدركها العقل السليم والضمير الحي. هذا النظام الأخلاقي يفقد معناه وقيمته إن لم يكن هناك جزاء عادل ونهائي على الأفعال. فإذا استوى المحسن والمسيء في نهاية المطاف، وانتفت المساءلة، لانهار الأساس الذي تقوم عليه الأخلاق والمسؤولية. لذا، فإن اليوم الآخر، بما فيه من حساب وجزاء، هو الضمانة المنطقية والضرورية لفعالية النظام الأخلاقي ومعناه.
  2. الإخبار الإلهي(الوحي) كبرهان يقيني :
    إن إخبار جميع الأنبياء والرسل، الذين أثبتت صدقهم البراهين العقلية ، بوجود الحياة الآخرة والبعث والحساب، يشكل دليلاً يقينيًا لا يمكن دفعه. هذا التواتر في الإخبار عبر العصور ومن مصادر متعددة موثوقة (الأنبياء) يرقى إلى درجة العلم الضروري الذي لا يُشك فيه إلا مكابر. فالوحي الإلهي هو مصدر للمعرفة اليقينية في الأمور الغيبية التي قد لا يصل إليها العقل وحده بالتفصيل، وإن كان العقل يقر بإمكانها ووجوبها إجمالاً. إن هذا الإخبار ليس مجرد دعوى، بل هو كشف لحقيقة كونية كبرى.

حول الاختلاف الفلسفي:
إن وجود آراء فلسفية تنكر البعث أو تشكك فيه لا ينقص من قوة هذه البراهين العقلية اليقينية. فالاختلاف في الرأي قد ينشأ عن عوامل متعددة:

منها اتباع الهوى، أو الجهل المركب، أو القصور في إدراك المقدمات المنطقية السليمة، أو التأثر بشبهات واهية، أو الكبر عن قبول الحق. إن الحقيقة الموضوعية لا تتأثر بإنكار المنكرين أو شك الشاكين. فكما أن وجود من ينكر كروية الأرض لا يجعلها مسطحة، كذلك وجود من ينكر الآخرة لا ينفي حقيقتها الثابتة بالبرهان العقلي القاطع والخبر الصادق.

الخاتمة:
إن البعث واليوم الآخر ليسا مجرد عقيدة دينية تُقبل تسليمًا، بل هما حقيقة ثابتة بالبرهان العلمي-المنطقي القاطع، وضرورة تقتضيها الحكمة الإلهية، والعدل المطلق، وطبيعة الوجود الإنساني. إن إنكار هذه الحقيقة هو سقوط في العبثية واللامعنى، وتجاهل لمقتضيات العقل السليم والفطرة المستقيمة. إن الإيمان باليوم الآخر هو ما يمنح الحياة الدنيا معناها وغايتها، ويضبط السلوك الإنساني، ويحقق الطمأنينة القلبية، ويفتح آفاق الأمل في تحقيق العدالة والكمال في حياة أبدية خالدة. ومن ثم، فإن التسليم بهذه الحقيقة ليس مجرد خيار فكري، بل هو استجابة لنداء العقل والمنطق والوجدان ويجعل معنى للحياة ويخلق الأمل في حياة أفضل خالية من الظلم والفساد.