السلفية والإسلام السياسي والمواطنة

تتعدد المفاهيم التي يتم تداولها في الفضاء الإسلامي، وواحدة من أبرز هذه المفاهيم هي “السلفية”. تتعلق السلفية أساسًا بطريقة التفكير أو منهجية في التعامل مع النصوص الدينية والتاريخية، وتشير إلى العودة إلى “السلف الصالح”، أي الذين عاشوا في القرون الأولى من الإسلام. ورغم أن هذه الكلمة غالبًا ما تُستخدم للإشارة إلى تيارات دينية محددة، إلا أن السلفية في جوهرها ليست مرجعية لجماعة معينة، بل هي آلية تفكير قد يشترك فيها عدد كبير من المسلمين، سواء كانوا شيعة أو سنة أو من طوائف أخرى.

تتداخل السلفية مع مفهوم “إتباع الآباء” في القرآن، حيث يمكن فهمها كمنهج عقلي أو اجتماعي يعتمد على مرجعية ماضوية متمثلة في الأجداد أو الآباء، وهو ما يعكس نوعًا من العاطفة الدينية التي تسعى إلى إعادة تأسيس صورة دينية واجتماعية مثالية بناءً على مفاهيم تاريخية محددة. وبذلك، تصير السلفية آلية تفكير تقوم على إعادة تفسير الدين من خلال فهم السابقين، ويشترك فيها جميع المسلمين على اختلاف طوائفهم، لكن تميزهم يكمن في مرجعية كل منهم، سواء كانت لآبائهم أو لمصادرهم الخاصة التي أضافوها للقرآن.

السلفية: آلية تفكير وليست جماعة محددة

السلفية ليست كما فهمها الكثيرون ؛ بل هي أكثر من مجرد جماعة دينية أو سياسية؛ هي في الأصل منهج فكري يعتمد على العودة إلى الماضي بشكل غير مرن. هذا المفهوم يشمل العديد من المدارس الفكرية والاتجاهات التي ترفض الحداثة وتتبنى مواقف دينية وسياسية تعتمد على فكر الأجيال الأولى من المسلمين. لكن لا ينبغي أن يتم حصر السلفية في جماعة أو حزب معين، بل يجب أن نراها أسلوب تفكير جماعي أو شخصي مشترك بين أغلب المسلمين، حتى لو اختلفوا في المذهب أو الطائفة.

السلفية هي في الحقيقة نوع من التفكير الذي يسعى إلى الإيمان بأن الماضين في القرون الأولى للإسلام هم القدوة الوحيدة التي يمكن الاتكاء عليها في تفسير الدين وتطبيقه. ومن يعتمد هذا النوع من التفكير يصير ملتزمًا بتفسير موحد للدين كما تم فهمه في تلك الحقبة الزمنية، بصرف النظر عن تفاصيل الجماعات أو المذاهب. وعلى الرغم من الاتفاق بين هذه الجماعات على هذه المنهجية، إلا أن هذا لم يمنعهم من اختلافات حادة فيما بينهم تصل في بعض الأحيان إلى التكفير والاقتتال، وهو ما يعكس حالة من التفرقة العميقة بين المسلمين الذين يتبنون نفس الآلية الفكرية.

السلفية والسياسة: تيارات قتالية وإصلاحية

يوجد داخل السلفية تياران رئيسيان: تيار سلفي قتالي وتيار سلفي إصلاحي دعوي. التيار السلفي القتالي يرى أن الجهاد ليس مجرد بذل جهد معنوي أو مادي، بل هو في بعض الأحيان يتضمن القتال لتحقيق الهدف الديني والسياسي. ومع ذلك، يُشدد على أن “الجهاد” كمفهوم في الإسلام لا يقتصر على القتال، بل يشمل كل جهد يبذل في سبيل الله، سواء كان ماديًا أو معنويًا.

من ناحية أخرى، يتبنى التيار السلفي الإصلاحي الدعوي منهجًا أكثر سلمية، إذ يسعى إلى إحداث التغيير من خلال الدعوة والإلتزام بدلاً من اللجوء إلى العنف. ومع ذلك، يُعتبر هذا التيار بمثابة “خزان بشري” الذي يغذي التيار السلفي القتالي. بمعنى آخر، يمكن القول إن السلفية الإصلاحية تفرز جيلًا من الأفراد الذين قد يتحولون إلى السلفية القتالية، مما يجعل هذا التيار يشكل تهديدًا كبيرًا في سياق تغييرات المجتمع والحكومة.

الإسلام السياسي: الخلط بين الدين والسياسة

الإسلام السياسي هو مصطلح غالبًا ما يستخدم لوصف الأحزاب والجماعات التي تحاول تطبيق الإسلام كمنهج سياسي، وهو مصطلح مضلل. الإسلام ليس جزءًا من السياسة أو مرتبطًا بحزب سياسي، بل هو دين شامل يتعامل مع الهداية والرشاد في جميع مناحي الحياة الإنسانية. وبالتالي، فإن وصف “الإسلام السياسي” يمكن أن يؤدي إلى تحريف جوهر الدين ليُفهم كما لو أنه مرجعية سياسية تقتصر على جماعة أو حزب معين.

الإسلام هو دين الله ويشمل جميع الناس بصرف النظر عن انتمائهم السياسي أو الطائفي. ومن غير الصحيح ربط الإسلام بجماعة أو مذهب، سواء كان سنيًا أو شيعيًا أو أي مذهب آخر. إضافة كلمة “السياسة” إلى الإسلام تجعل الدين يبدو وكأنه مقيد بمنظور جماعي أو حزبي، وهو أمر يتناقض مع جوهر الدين الذي يجب أن يبقى بعيدًا عن أي اعتبارات سياسية حزبية.

الفرق بين الإسلام كدين والإسلام كحركة سياسية

في منطقة الشرق الأوسط، تعتبر جماعات مثل الإخوان المسلمين وحزب التحرير من أبرز الحركات الإسلامية المسيسة. ورغم الاختلاف بينهما في المنهج والوسائل، إلا أن كلا الحزبين يشتركان في الأساس السلفي كآلية فكرية. وهذه الجماعات، بالرغم من تباين مواقفها السياسية، تعتبر نفسها ممثلة للإسلام ووصيا على الأمة، وتستخدم الدين كغطاء لتبرير مواقفها وأعمالها السياسية.

من الضروري التفريق بين الإسلام كدين وبين الجماعات التي تستخدم الدين لتبرير مواقفها السياسية. الإسلام هو دين شامل لا ينتمي إلى حزب أو جماعة، بينما يمكن أن تتغير الأحزاب السياسية وفقًا لظروف اجتماعية وسياسية معينة. لذا، ينبغي عند الحديث عن الإسلام أن نميز بين دين الله وبين الأحزاب السياسية التي قد تستخدم الدين كأداة لتحقيق أهدافها.

مفهوم المواطنة والقومية: فطرة إنسانية لا تتعارض مع الدين

من المهم أن ندرك أن مفاهيم مثل المواطنة والقومية لم يتطرق إليها القرآن بشكل مباشر، لا لأنها مرفوضة، بل لأنها من الأمور الفطرية الراسخة في النفس البشرية، كغريزة الانتماء للأرض والجماعة. هذه المفاهيم كانت حاضرة بشكل طبيعي في الحياة، فلا حاجة للنصوص أن تؤسس لها.

الدين الإسلامي يحض على الكرامة الإنسانية، والحرية، ويدعو إلى الدفاع عن النفس والوطن ضد الظلم والعدوان. فالتمسك بالوطن والانتماء لقوم معين أمر طبيعي في الإنسان، لكن الإشكال فقط عندما يتحول الانتماء إلى “وثنية فكرية” أو مشروع تعصبي يعلو على الحق والعدل.

ولذلك، لا نجد في الثقافة الإسلامية الكلاسيكية مصطلحي “الوطنية” أو “القومية” بالمفهوم الاصطلاحي الحديث، و مع تطور الأزمنة ظهرت مصطلحات مثل الوطنية، المجتمع المدني، الديمقراطية، والعلمانية، متأثرة بالثقافة الغربية حسب بيئتها واحتياجاتها وتجاربها.

هذه المفاهيم حين قُدِّمت إلى المجتمعات الإسلامية، صادمت الثقافة الإسلامية التقليدية، فتم رفضها بشكل تلقائي بدعوى أنها “مستوردة” أو “كافرة”، دون أن يجري تجريد المفاهيم عن التجربة الغربية. فكان الأجدر أن نفصل بين التجربة الخاصة بالغرب وبين أصل المفاهيم، وأن نتعامل مع هذه الأفكار وفق ثقافتنا وهويتنا لا أن نخوض حرب مصطلحات خاوية.

المهم هو المضمون لا مجرد اللفظ. فالديمقراطية، مثلًا، يمكن فهمها في إطار “الشورى” الإسلامية، والمجتمع المدني مفهوم قابل للتطوير بما يتلاءم مع مبادئ الإسلام.

السلفية وموقفها من الوطنية والقومية

خلال التاريخ، لم يكن التيار السلفي مناهضًا لفكرة الدفاع عن الوطن والانتماء له، بل كان في طليعة من دافعوا عن بلادهم ضد العدوان. فمثلًا:

  • ابن تيمية تصدى للمغول دفاعًا عن دمشق، ووقف موقفًا وطنيًا بطوليًا.
  • صلاح الدين الأيوبي “الكردي” جاهد لتحرير القدس من الاحتلال الصليبي دفاعًا عن أرض الإسلام وأهله، وعناصر الجيش كانت من الأمة دون تمييز طائفي أو مذهبي أو قومي.

ورغم أن مصطلح “الوطنية” لم يكن مستخدمًا آنذاك، إلا أن الموقف العملي كان وطنيًا بامتياز. وهذا يثبت أن الدفاع عن الوطن تحصيل حاصل في فطرة الإنسان ودينه، ولا يتطلب تبني مصطلح معين.

لكن التيار السلفي المعاصر يعاني من تشنج فكري تجاه كل مصطلح غربي المنشأ، ويظن أن تبني أي مصطلح يعني تبني التجربة الغربية كاملة، وهذا خطأ. المطلوب هو التعامل مع المفاهيم كأفكار موضوعية مجردة، وتطبيقها وفق ثقافتنا وهويتنا الإسلامية.

تنظيم الحكم والمجتمع المدني في الإسلام

مفهوم المشاركة في الحكم موجود في الإسلام تحت مسمى الشورى، حيث يتم التشاور بين أهل الحل والعقد، ووضع نظام إداري ينظم العلاقات بين مؤسسات الدولة، ويحقق العدالة والمصلحة العامة. فالمصطلحات الحديثة مثل “النظام الإداري” أو “المجتمع المدني” أو “فصل السلطات”، ليست بالضرورة متعارضة مع الإسلام إذا ضبطناها بثقافتنا.

الحل: التنوير والانفتاح لا حرب المصطلحات

الحل يكمن في التنوير والتثقيف والانفتاح على المفاهيم الجديدة، مع إخضاعها للميزان الثقافي الإسلامي، وليس في خوض حروب عبثية حول المصطلحات. نحن بحاجة إلى التعارف مع الآخرين، وفهم تجاربهم، وانتقاء ما يناسبنا من الأفكار لا أن نرفضها جملةً وتفصيلًا بدعوى أنها “غربية”.

وينبغي أن نفرق بين السياسة كعلم والسياسة كتطبيق، فليس كل فكرة أو حل صواب يكون مناسبا للظرف الراهن، والسياسي يتعامل مع المعطيات ويختار الحل المناسب ولو كان خطا ريثما يتغلب على العوائق ويرجع لتطبيق الحل الصواب.

يجب أن نركز على المضامين وليس الألفاظ، فالأفكار تتطور، والمصطلحات تتغير، لكن القيم الثابتة تظل هي المعيار.