الفرق اللساني والدلالي بين كلمتي “بِئر” و”جُبّ” في النص القرآني

يشكّل فهم الألفاظ القرآنية ضمن نسقها الداخلي المنطقي اللساني أداة ضرورية لتفكيك المعنى وتحريره من القيود التراثية والمعجمية التي غالبًا ما اختزلت دلالات المفردات إلى قوالب جامدة. من هذا المنطلق، نُجري في هذا المقال دراسة مقارنة بين كلمتي “بِئر” و”جُبّ” كما وردتا في القرآن الكريم، اعتمادًا على التحليل الصوتي والبنائي، وعلى السياق القرآني نفسه، لا على آراء خارجية.

الجذر والدلالة الصوتية:

أولًا: “بِئر”

  • الجذر: ب – ء – ر
  • التحليل الصوتي:
    • ب: حركة دالة على جمع وضم مستقر.
    • ء: بدء خفيّ، ظهور داخلي غير صاخب.
    • ر: حركة تكرار واستمرارية.

الدلالة اللسانية:

الكلمة تدل على موضع تجمّع ثابت لعنصر ما في باطن الأرض أو في نقطة مركزية، مع إمكانية انبعاث أو استخراج هذا العنصر بشكل مستمر أو متكرر.
ولذلك تتّسع دلالة “بئر” لتشمل كلّ نقطة تجمّع وظيفية (مثل “بئر نفط”، “بئر أسرار”، “بؤرة”…). وليست محصورة في الحفرة المائية فقط.

 

ثانيًا: “جُبّ”

  • الجذر: ج – ب – ب
  • التحليل الصوتي:
    • ج: جهد وقوة مركزة.
    • ب + ب: تكرار يدل على استقرار وضم داخلي.

الدلالة اللسانية:

الكلمة تدل على موضع عميق في الأرض أو غيرها، وغالبًا عموديّ في الأرض، يتطلّب جهدًا للوصول إلى ما بداخله، وله خاصية الاحتواء والانغلاق.
وهو لا يشير بالضرورة إلى وجود ماء أو سائل، بل يُعنى بالبنية الفيزيائية للحفرة أو العمق، وقد يكون هذا الموضع خفيًا عن الأنظار أو غير مرئي من سطح الأرض.، ويمكن أن يكون مادياً أو معنوياً.

السياق القرآني:

  1. كلمة “جُبّ” في سورة يوسف [يوسف: 10، 15، 19]:

﴿قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَاتِ الْجُبِّ﴾
﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَاتِ الْجُبِّ﴾
﴿فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ﴾

السياق يرسم صورة لموضع:

  • عميق جدًا (تكرر وصفه بـ”غيابات”).
  • ذو فتحة ضيقة (يستلزم إدلاء الدلو).
  • لا يُرى من السطح (ما فسّر المفاجأة عند خروج يوسف).

ولم يذكر النص وجود الماء صراحة، ولكن السياق كله مبني على فرضية البحث عن الماء، لأن الوارد أدلى دلوًا. مما يؤكد أن الجب في القصة موضع مائي في الغالب، لكن أهم خصائصه العمق والاحتواء.

  1. كلمة “بِئر” في سورة الحج [الآية 45]:

﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾

تُذكر “البئر” هنا كعلامة حضارية مهجورة، تُقابل “قصر مشيد”، أي موضع كان يُستخدم لاستخراج ماء أو إدارة مورد حيوي، ثم تم تعطيله.
“معطلة” لا تعني بالضرورة “جافة”، بل متروكة عن العمل والوظيفة، مما يدل على أن “بئر” وظيفة، لا مجرد حفرة.

 

الخاتمة:

من خلال تحليل لسان القرآن ، يتبيّن أن الفرق بين “بئر” و”جبّ” ليس فقط في الشكل الفيزيائي، بل في الوظيفة والدلالة الصوتية والعلاقات السياقية.
“البئر” تمثل مصدرًا وظيفيًا للموارد والاستخراج، بينما “الجب” يمثل موضعًا عميقًا يستقر فيه الأشياء، وقد تُستخدم كلا الكلمتين في مواقع مائية، لكن الفارق الدقيق بينهما يتجلّى في البنية والغاية والحدث القرآني المحيط بهما، وكل بئر هو جب، والعكس غير صواب.