هل أُلقي النبي إبراهيم في نار فيزيائية

       تتناول هذه الدراسة حادثة محاولة “حرق النبي إبراهيم”، وفقًا للمنهج القرآني الصارم الذي لا يعتمد على المجاز أو التراث، بل على تتبّع النصوص وتقاطعها، وبناء السيناريو وفق اللوازم العقلية الظاهرة من سياق الكلام. يركز التحليل على دلالة الفعل القرآني لا على خلفياته، ويفترض أن الخطاب موجه لعقل قادر على ربط الحوادث بما تقتضيه.

  1. تطور الحدث: من التهديد إلى التنفيذ

يبدأ الحدث بقوله تعالى:

(قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68]

الفعل “حرِّقوه” بصيغة مشددة يدل على رغبة جماعية ملحّة بإيقاع عملية إحراق متكررة أو شديدة، لا مجرد التهديد. كما أن ربط الحرق بـ “نُصرة الآلهة” يؤكد أن ذلك العمل اتخذ طابعًا شعائريًا علنيًا وليس مجرد رد فعل غاضب أو سرّي.

ثم يقول:

(فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت: 24]

المقابلة بين خيار القتل وخيار الحرق يثبت أن الحرق هنا يُراد به أن يكون وسيلة مباشرة للتخلص من إبراهيم جسديًا. ثم يأتي الفعل {فأنجاه الله من النار}، وليس من القوم أو من خطتهم أو من مكرهم، مما يدل على أن النار كانت عنصرًا مباشرًا في التهديد الذي حصل له.

  1. مشهد الإلقاء في الجحيم

(قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97]

الأمر ببناء بنيان لا يدل على مجرد التخطيط، بل على خطوة تنفيذية حسية، والغرض من البنيان هو الإلقاء. لفظ “الجحيم” يشير إلى موقع مُهيّأ للإحراق الشديد، وهو ما يتماشى مع وصف النار في مواضع العذاب. وإن كانت الكلمة قد تحتمل دلالة غير مادية في مواضع أخرى، إلا أن السياق هنا يفرض الإحراق الفيزيائي تحديدًا، إذ هو المقصود بالإلقاء. بينما المكر أو التخطيط لا يُبنى له بنيان، ولا يُلقى فيه جسد، وكلمة (فألقوه) تدل من خلال الأفعال اللازمة المنطقية في الحدث أن القوم قاموا بحمله ورموه في النار ولولا ذلك لما أتى الفعل بهذه الصيغة وإنما كان يأتي بصيغة تفيد المستقبل مثل، ( لنلقيه).

  1. تدخل الأمر الإلهي ووقف خاصية الإحراق

(قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]

هذه الآية هي مركز الحسم في القضية. توجيه الأمر التكويني “كُوني” هو من خصائص الأوامر التي تعلّق بحالات مادية محسوسة، كقوله {كُن فيكون}. فالأمر للنار بالتحول إلى “برد وسلام” ليس مجازًا، بل تحكم مباشر في خاصية مادية معروفة وهي الإحراق.

لو كانت النار هنا تعني مكرًا أو خططًا،مثل نص: { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }المائدة64، لما صحّ توجيه الأمر لها بصيغة “كوني”، لأن المكر ليس عنصرًا ماديًا له خصائص حرارية ليُوجَّه له هذا الأمر. كما أن “السلام” والبُرد” مفهومان يرتبطان بالعذاب الحراري المادي في النص القرآني، لا بالحروب النفسية أو المكر.

  1. دلالة النجاة

قوله: (فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ)

يدل أن الخطر كان من عنصر النار نفسها. فالنجاة ليست من قومه، ولا من مكيدة، بل من مادة كان لها فعل يُنتظر، وقد تم تعطيله. وهذا يدل أن النار كانت فيزيائية وأن عملية الإلقاء قد تمت فعلاً، وأُوقفت نتيجتها.

  1. التمييز بين النار والمكر

في مواضع أخرى مثل قوله:

(كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64]

يظهر أن النار أحيانًا قد تشير إلى سياق معنوي – كالنزاع أو الحرب – لكن هذا النوع من النار لا يُعامل بالأمر التكويني المباشر ولا بالبنيان ولا بالإلقاء الجسدي، بل يرتبط بالسعي والإفساد. وهذا السياق مغاير تمامًا لسياق قصة إبراهيم الذي يتعامل مع تهديد مادي مباشر.

  1. النظام السُّنني

في كل مرة يظهر فيها تدخل مباشر من الله في المادة – كما في قصة عيسى أو عصا موسى أو إبراهيم – يكون الأمر الإلهي معلقًا بخصائص المادة نفسها. هنا، تم إيقاف خاصية الإحراق في النار، ما يدل على أن السنة الكونية جرى تعليقها استثناءً وتم الانتقال إلى سنة أخرى، وليس أن التهديد لم يكن ماديًا أصلًا.

خاتمة

من خلال تتبع تسلسل الحدث عبر النصوص:

  • القول بالحرق جاء بصيغة مشددة.
  • وقع الأمر ببناء موقع للإحراق.
  • جرى الإلقاء فعليًا.
  • تم توجيه الأمر للنار نفسها وليس للناس أو مكرهم.
  • جاءت النجاة من مادة الحرق مباشرة، لا من الفاعلين.

كل هذه لوازم منطقية تستلزم أن النبي إبراهيم أُلقي فعليًا في نار محسوسة، وأن الله أوقف خاصية الإحراق فيها.