يأت الله في القرآن: ظهور السلطان لا حركة الذات
إن التعبير القرآني “يَأْتِ اللَّهُ” من المواضع التي تستوجب وقفة تدبرية وتحليلية دقيقة، خاصة في ظل المفاهيم العقائدية التي تؤكد على تنزيه الله عز وجل عن أي تشبيه مادي أو حركة مكانية. وقد ورد هذا التعبير في مواضع توحي بظهور قضاء إلهي حاسم، مما يوجب فهمه ضمن المنهج القرآني الذي يُحسن ضبط النسبة بين الفعل الإلهي وتجلياته في عالم الشهادة.
تحليل الجذر (أتى): الجذر الثلاثي (أ- ت- ى) يتكون من ثلاثة أصوات تحمل دلالات حركية دقيقة: فالألف تدل على بدء وإثارة الفعل، والتاء تشير إلى دفع خفيف وموجه، والياء تعبر عن الامتداد الزماني. وعليه فإن جذر “أتى” لا يدل على مجيء ذاتي أو انتقال مكاني، وإنما على تحقق تدريجي لشيء كان مُنتظرًا أو محجوبًا في الزمان.
سياق الاستعمال القرآني: من أبرز الآيات التي ورد فيها هذا التعبير قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾. والسياق هنا يتحدث عن أناس يطلبون دليلاً حسيًّا مباشرًا على صدق الرسالة، وكأنهم ينتظرون حضورًا إلهيًا مرئيًا. غير أن النص القرآني يصوغ هذا الانتظار بمشهد كوني رمزي يصف ظهور السلطان الإلهي، لا الذات الإلهية، إذ إن الغمام وما يلفه من ظلل يمثل ظرفًا كونيًا هائلًا ومهيبًا، تظهر فيه الملائكة بصفتها الجهات المنفذة للأمر الإلهي.
فهم “يأتي الله” ضمن منظومة قرآنية أوسع: القرآن الكريم ينسب أفعالًا متعددة إلى الله تعالى، من قبيل “أنزل الله” و”خلق الله” و”أتى الله”{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ }النحل26، وهذه الأفعال لا تدل على ممارسة مباشرة، بل على نسبة الأثر إلى المصدر الأعلى، أي أن حصول الظاهرة أو تحقق الحكم في الواقع يتم وفق إرادة الله ونظامه. وبالمنطق نفسه نفهم أن “يأتي الله” تعني: يتحقق أمر الله وفق ظرف كوني مخصوص.
من الآيات القرآنية التي تؤكد هذا النسق ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ﴾، فالساعة لا تأتي بذاتها، بل تتحقق وفق نظام كوني محكم. وكذلك قوله: ﴿جَاءَ أَمْرُنَا﴾، أي ظهر ونُفّذ، وليس أن الأمر ذاته سار أو تحرك.
التمييز بين “جاء ربك” و”يأتي الله”: في مواضع أخرى، كقوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾، لا يمكن أن يُفهم من السياق أن الله بذاته جاء، بل المقصود جهة من جهات السلطان الربوبي، أو ظهور وجه من أوجه التدبير الإلهي في ظرف حاسم. أما التعبير “يأتي الله”، فهو تعبير دال على تحقق أمر الله أو قضائه، منسوبًا إليه تنزيهًا وتفويضًا.
دلالة الغمام والظلل: الغمام هو الغطاء الكوني، ويشير إلى ما يغشى أمرًا هائلًا ويجعله محتجبًا عن الإدراك المباشر. أما الظلل فهي طبقات متراكبة من التغطية، ما يعزز فكرة التهيئة التدريجية لظهور قضاء مهيب. هذا ينسجم مع فهم “يأتي الله في ظلل من الغمام” كمشهد كوني يحدث فيه التحول العظيم عبر تجلٍ سلطاني، لا ظهور ذاتي.
خاتمة
بناءً على ما تقدم، فإن تعبير “يَأْتِ اللَّهُ” لا يجوز أن يُفهم على أنه حركة أو مجيء للذات الإلهية، وهو منزه عن ذلك. بل يُفهم على أنه تجلٍّ لسلطان الله في عالم الشهادة، يظهر في لحظة كونية مخصوصة، وتحت ظرف محسوب، تبرز فيه الملائكة بوصفها الجهات المنفذة للأمر. وهذا الفهم يعيدنا إلى الأصل القرآني في تنزيه الله عز وجل عن كل تشبيه، وفهم أفعاله من خلال آياته في الخلق والنظام الكوني المحكم.
اضف تعليقا