مفهوم كلمة التوراة لسانيا و قرءانياً
تعتبر كلمة “التوراة” من الكلمات الجوهرية في الخطاب القرآني، وتحمل معانٍ دينية وثقافية هامة. وقد استخدمت هذه الكلمة في القرآن الكريم لتشير إلى الكتاب المقدس الذي أُنزل على النبي موسى عليه السلام. ولكن لفهم معنى الكلمة في سياقها القرآني بشكل دقيق، لا بد من العودة إلى تحليل دلالاتها اللسانية الجذرية بعيدًا عن التأويلات المعجمية أو التراثية التي قد تتأثر بعوامل ثقافية أو اصطلاحية أو الادعاء بوجود كلمات أعجمية في القرءان وهذا مناف لنزوله بلسان عربي مبين، في هذا المقال، نسعى لتقديم تحليل لساني منطقي لكلمة “التوراة” بناءً على دراسة الجذر الصوتي واستخدامات أصوات اللسان العربي، مع توجيه الاهتمام لكيفية تطور الكلمة وتوظيفها في الخطاب القرآني.
الأسس المنهجية للدراسة:
تستند هذه الدراسة إلى الأسس التالية:
- فطرية اللسان العربي: ننطلق من أن اللسان العربي في نشأته الأولى كان فطريًا، نابعًا من تفاعل الإنسان مع الطبيعة والأحداث. هذا الفهم يقر بوجود دلالات ثابتة للأصوات، وهذه الدلالات تشكل أساس المفهوم ومنه يظهر المعنى حين الاستخدام.
- ثبات المفهوم الجذري الصوتي: يقتضي أن لكل جذر لساني دلالة أساسية ثابتة مستمدة من الأصوات الأصلية، ولا يجوز تجاهل هذه الدلالات في فهم معاني الكلمات.
- الجذور الثنائية والثلاثية: يركز هذا المقال على الجذور الثنائية التي تُعد الأصل في نشوء الكلمة، فيما الجذور الثلاثية تطورت منها. ووفقًا لهذا، فإن الجذر الأساسي للكلمة هو الثنائي، بينما تطور الجذر الثلاثي بمرور الزمن.
- أحرف المد أو العلة أو الصوتية ( أ- و- ي) تدخل على الكلمات لتعطيها امتداداً في المعنى ولا تنفي مفهوم الجذر
- القرآن الكريم كمرجع أساسي: بما أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، فإن المعنى المستخلص من الكلمة يجب أن يتوافق مع القواعد اللسانية المقررة في القرآن، دون اللجوء إلى تحليلات اصطلاحية أو مقارنة مع ألسنة أخرى.
وينبغي أن ننتبه إلى أن وصف الشيء لا يعني أن اسمه يأخذ دلالة الوصف، مثل” من قال إن التوراة هدى ونور {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ }المائدة44، فهذا يعني أن جذرها من ( ورى) ، فالإنجيل أيضا فيه هدى ونور { وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ }المائدة46 ، والقرءان أيضاً هو هدى ونور و لا علاقة لذلك باسمه {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ }البقرة185، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً }النساء174.
دلالات الأصوات:
قبل الخوض في تحليل كلمة “التوراة”، من المهم استعراض دلالات الأصوات العربية التي ستساعد في فهم المعنى الجذري للكلمة. وفقًا للدراسة، نلاحظ أن أصوات الحروف تحمل دلالات فطرية:
- التاء (ت): تدل على دفع خفيف، وظهور، وبدء.
- الراء (ر): تدل على تكرار واستمرار، أو ربط، أو استقرار.
- الواو (و): تدل على ضم ممتد مكانيًا، ووعي، ووجود.
- الألف (ا): تدل على امتداد زماني ومكاني، وإثارة للاستجابة.
- التاء (ت): تدل على دفع خفيف وبدء جهد
التحليل اللساني لكلمة “التوراة”:
كلمة “التوراة” تتألف من الجذر الثلاثي (ت و ر) مع زيادات مثل الألف والتاء. بناءً على تحليلاتنا السابقة، نستعرض تفصيل هذا الجذر في سياق أصواته.
الجذر الثنائي (ت – ر):
التركيب الأول لكلمة “التوراة” يمكن فهمه من الجذر الثنائي (ت – ر)، الذي يحمل في طياته دلالات بداية جهد وظهور متكرر ومستمر. فالـ (التاء) تشير إلى بدء أو دفع خفيف، بينما الـ (الراء) تشير إلى التكرار أو الاستمرار. إذاً، الجذر الثنائي (ت – ر) يمكن أن يُفهم كمفهوم “ظهور جهد متكرر”، أي بداية أو دفع يتكرر عبر الزمن، مما يتناسب مع وظيفة الكتاب السماوي في الهداية والتوجيه المستمر.
تطور الجذر إلى ثلاثي (ت و ر):
في مرحلة لاحقة من التطور اللساني، تم إضافة الواو إلى الجذر الثنائي (ت ر) ليصير الجذر الثلاثي (ت و ر). الواو هنا تضيف دلالات جديدة الضم والربط الممتد مكانياً و الوعي الممتد. هذا يشير إلى أن “التوراة” لا تقتصر فقط على عملية التكرار، بل تتضمن أيضًا دلالات الوعي والضم الممتد، وهي عناصر مهمة في فهم دور الكتاب في إرشاد الإنسانية.
الزيادات:
- الألف (ا): أضافت للأصل الدلالة على الامتداد الزماني والمكاني والإثارة الحركية ، مما يشير إلى تأثير “التوراة” الذي يمتد عبر الأجيال والأزمان.
- التاء المربوطة (ت): هي إضافة لسانية تدل على حركة الجهد بعد الامتداد. وبالتالي، فإن كلمة “التوراة” تتخذ شكل الكيان المستقل أو الوحدة المتكاملة التي تجسد الهداية الإلهية.
المفهوم المستنبط لكلمة “التوراة”:
عند دمج دلالات الأصوات مع الزيادات في كلمة “التوراة”، يمكن استنباط المفهوم الكلي التالي:
“الكيان المتكامل الذي يمثل تجسيدًا لعملية بدء وظهور متكرر ومستمر (من ت ر)، يتخلله ضم ووعي ممتد من(و)، وله تأثير يمتد عبر الزمان والمكان ( ا)، ويثير الاستجابة من ( ت).
علاقة المفهوم المستنبط بوظيفة الكتاب السماوي:
يتضح أن المفهوم المستنبط من جذر ( ت و ر) يتوافق مع وظيفة الكتاب السماوي كما تظهر في الخطاب القرآني. “التوراة” في هذا السياق تشير إلى الكتاب الذي يمثل تجسيدًا للهداية المستمرة التي تبدأ وتظهر مرارًا، وتستمر عبر الزمان والمكان. هذه الهداية تتسم بقدرتها على شمولية الضم والاحتواء، بما يتماشى مع وظيفة الكتاب المقدس في توجيه الناس.
مناقشة ودلالات إضافية:
إن العودة إلى الجذر الثنائي (ت ر) تعني فهم أن “التوراة” هي أكثر من مجرد كتاب سماوي أو تشريع تاريخي؛ بل هي عملية مستمرة من الإرشاد والتوجيه الذي لا يتوقف. والواو التي تم إضافتها إلى الجذر تشير إلى ارتباط قوي بين الكتاب وأثره المستمر في الحياة البشرية، مما يعزز تأثيره المتواصل ويؤكد على ضرورة الاستجابة له عبر الأزمان.
الخاتمة:
خلصت هذه الدراسة إلى أن كلمة “التوراة” في الخطاب القرآني تُستنبط من جذر ثلاثي (ت و ر) تطور عن الجذر الثنائي (ت ر) و من خلال التحليل الصوتي الدلالي، تم التوصل إلى أن “التوراة” تشير إلى الكيان الذي يجسد عملية بداية وظهور مستمرة ومكررة، مصحوبة بالضم والوعي الممتد، وله تأثير ممتد ومثير للاستجابة عبر الزمان والمكان. تؤكد هذه الدراسة على أهمية العودة إلى الجذور الصوتية الفطرية لفهم المفردات القرآنية بشكل أصيل ودقيق، مع التأكيد على أن الخطاب القرآني لا يحتوي على مجاز أو استعارة أو كلمات أعجمية، بل يقدم معاني واضحة وفق النظام اللساني العربي المبين.
اضف تعليقا