مفهوم كلمتي “كتب و الكتاب” في القرآن الكريم
يُعدّ القرآن الكريم، المصدر الأول للهداية، منظومة لسانية بالغة الثراء والدقة. تتجلى هذه السمة في استعماله للألفاظ التي تحمل في طياتها معاني متعددة ومستويات دلالية متنوعة. من بين هذه الألفاظ، تبرز كلمتا “كتب” و”الكتاب” لما لهما من أهمية مركزية في فهم طبيعة الوحي الإلهي وعلاقته بالنبي محمد والمؤمنين.
يسعى هذا المقال إلى تتبع المفهوم الدلالي لهاتين الكلمتين في النصوص القرآنية مع التمييز بين معناهما اللساني الأصيل ودلالاتهما المتعددة في سياقات الوحي، خاصةً تلك التي تتجاوز الإشارة إلى المدون المادي نحو آفاق معنوية أوسع، والرد على من يدعي أن دلالة كلمة “كتب أو الكتاب” يلزمها الخط ضرورة ولا يتصور وجودهما بصورة معنوية.
أولاً: الدلالة اللسانية الجذرية لفعل “كتب”
في معاجم اللسان العربي ، فعل “كتب” يحمل في صلب معناه دلالات الجمع والضم والتقييد والإحكام. يُلاحظ أن هذا المعنى الأصيل يتضمن فكرة تثبيت الشيء وربط أجزائه ببعضها البعض، سواء كان ذلك حسياً أو معنوياً. ومع تطور الاستعمال اللساني، شاع استخدام الفعل للدلالة على تدوين الكلام والمعلومات بواسطة الخط والقلم، باعتبار أن هذه العملية تمثل إحدى أبرز وسائل التقييد والإحكام للمعاني، وخاصة بعد التطور التقني.
ثانياً: الوحي القرآني: نزول على القلب لا نقش على الرق
من الأسس الثابتة أن القرآن الكريم نزل وحياً من الله تعالى على قلب النبي محمد. يشير إلى ذلك قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 193-194]. هذا النص يؤكد على أن تلقي النبي للوحي كان عملية روحية وقلبية مباشرة، لا تعتمد في أساسها على التلاوة من مدون أو الخط بيده، وهو ما تؤكده الآية الكريمة: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] .
وقد كان النبي يتلو القرآن على الناس بصوته، كما في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] ، مما يؤكد على أن وسيلة التلقي الأولى للقرآن وانتشاره كانت السماع والتلاوة الصوتية، لا التلاوة من مصحف مخطوط، وهو ما يستدل عليه بالآيات التي تذكر سماع الناس لكلام الله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] و {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6].
ثالثاً: الدلالات المعنوية لكلمتي “كتب” و”الكتاب” في القرآن الكريم (تحليل دلالي)
تتجاوز دلالة “كتب” و”الكتاب” في القرآن الكريم الإشارة الحسية إلى فعل التدوين أو النص المخطوط، لتشمل معاني أعمق تتعلق بالقضاء الإلهي، والتشريع، والتقدير، والأجل المحتوم، والحقوق والواجبات.
أ) دلالات فعل “كتب” المعنوية:
- الأمر الواجب:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183].
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة216
هنا، “كُتب” الفعل المبني للمجهول لا يعني التدوين الخطي، بل الأمر الواجب وفق معطيات تحصل في الواقع.
2- الأمر الواجب اللازم فعله:
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً }النساء66
3- الإلزام للنفس:
{قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }الأنعام12
4- القضاء الإلهي:
{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21]
{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]
5- الإثبات:
{لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ … أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22].
6- الفرض:
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء اللَّاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء: 127] بمعنى مافرضتم لهن من عطايا.
هذه نماذج عن مجيء كلمة “كتب” بدلالة معنوية ولاعلاقة لها بالخط أبداً
ب) دلالات اسم “الكتاب” المعنوية:
- الأجل المقدر:
{وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235].
“الكتاب” هنا يشير إلى الأجل المتفق عليه بين الطرفين
- إتيان الكتاب:
{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً }مريم30
هل نزل على المسيح كتابا مخطوطاً؟
3- وراثة الكتاب:
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ … أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ} [الأعراف: 169].
هل ورثوا كتاباً مخطوطاً؟
4- الاتفاق وجمع الإرادات:
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً }النور33
5- العلم المجموع:
{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً }النساء54
هل أوتوا آل إبراهيم كتابا مخطوطاً؟
6- القضاء والتقدير: السنني:
{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }الحديد22
كل هذه النصوص التي ذكرت كلمة الكتاب هي بدلالة معنوية.
خاتمة:
يتضح من تحليل النصوص القرآنية التي ذكرتها أن كلمتي “كتب” و”الكتاب” تحملان دلالات أغنى وأعمق من مجرد الإشارة إلى فعل الكتابة المادي أو النص المخطوط. ففي سياقات الوحي، تتجلى معانيهما المتعلقة بالقضاء الإلهي، والتشريع، والتقدير، والأجل المحتوم، والحقوق والواجبات المقدرة. إن فهم هذه المستويات الدلالية المتعددة يسهم في تعميق تدبرنا للقرآن الكريم وإدراكنا لحكمة الله تعالى وشمولية كلماته. إن تجاوز الفهم السطحي للفظ إلى استيعاب دلالاته المعنوية يمثل خطوة أساسية في التفاعل الواعي مع النص القرآني وهدايته.
اضف تعليقا