مفهوم فك رقبة وتحرير رقبة

      يتناول هذا البحث مفهومي “فك رقبة” و”تحرير رقبة” وفق منهجية قرآنية تعتمد على التحليل الدقيق للمفردات ودلالاتها ضمن اللسان العربي المبين، بعيدًا عن التصورات التي قد تكون تأثرت بتطبيقات تاريخية ظرفية. سنوضح الفرق بين المفهومين بناءً على النصوص القرآنية، مع التأكيد على أن القرآن الكريم في جوهره لا يتضمن إقرارًا أو تشريعًا لمفهوم الرق أو العبودية كاستعباد للإنسان، وأن الإنسان خُلق حرًا. كما سنوضح أن مفهوم “ملك اليمين” القرآني الأصيل مرتبط بمنظومة اجتماعية واقتصادية تتعلق بتبعية الجهد والعمل، وليس تملك الإنسان ذاته، وأن أي فهم تاريخي ربط هذا المفهوم بالاستعباد التقليدي هو فهم بشري خاطئ وظالم يتنافى مع مقاصد القرآن.

    لقد نزل القرآن في واقع تاريخي سادت فيه ممارسات خاطئة وظالمة كاستعباد الإنسان وبيعه وشرائه، وهي ممارسات تتنافى مع مبدأ حرية الإنسان الأصيلة التي كرمه الله بها. وفي حين أن البعض قد ربط خطأً هذه الممارسات بمفهوم “ملك اليمين” القرآني، فإن المفهوم القرآني الأصيل لـ”ملك اليمين” يقتصر على علاقات تبعية الجهد والعمل، وليس تملك الإنسان ذاته. وعليه، فإن دعوة القرآن لـ”تحرير رقبة” كانت، في ذلك السياق التاريخي، تشمل بلا شك كأولوية قصوى تحرير هؤلاء الذين وقعوا تحت نير الاستعباد التقليدي. ومع انتهاء تلك الصورة التاريخية للاستعباد، يظل مفهوم “تحرير رقبة” حيويًا وفعالاً، ليتناول كل صور القيود والاستعباد المعاصرة التي تثقل كاهل الإنسان وتقيد حريته.

    مفهوم “تحرير الرقبة”

       ورد مفهوم “تحرير الرقبة” في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} (المجادلة: 3). كلمة “تحرير” تأتي من الجذر (حرر)، وتعني إزالة القيود بشكل كامل والعودة إلى حالة الحرية الذاتية. أما كلمة “رقبة” فهي من الجذر (رقب) وتعبر عن ما يُنصب بقوة لحمل شيء آخر، ويمكن أن تشير إلى الإنسان نفسه القائم بأمر أو الحامل لمسؤولية أو الواقع تحت قيد.

وعليه، فإن “تحرير الرقبة” يشير إلى فعل شامل يُنهي حالة تقييد أساسية وجوهرية تحد من حرية إنسان، سواء كانت هذه القيود مادية (كديون ساحقة أدت إلى سجن أو فقدان للقدرة على التصرف، كمثل التاجر المفلس الذي تُسدد ديونه ويُخرج من السجن) أو معنوية أو اجتماعية (كضغوط شديدة أو تبعية مجحفة). الهدف هو إعادة الإنسان إلى حالة حرية كاملة أو شبه كاملة من ذلك القيد المحدد، ليمارس حياته بشكل طبيعي. وفي سياق “ملك اليمين” (بمفهومهم كعمال أو موظفين تابعين في الجهد)، قد يعني تحرير رقبتهم مساعدتهم على الاستقلال التام إذا كانوا يعانون من ضغوط أو قيود تمنعهم من ذلك، أو حل مشاكلهم المالية أو الاجتماعية الكبرى التي تقيد حريتهم الفعلية، مع بقائهم في عملهم برضاهم إذا اختاروا ذلك، ولكن دون أن يكونوا تحت وطأة تلك القيود.

مفهوم “فك الرقبة”

ورد مفهوم “فك الرقبة” في قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} (البلد: 13)، في سياق “اقتحام العقبة”. كلمة “فك” تدل على إزالة الربط أو التقييد، والجذر (فكك) يعني حلّ الشيء المعقود. وهنا يأتي المعنى في سياق مساعدة إنسان واقع تحت ضغط اجتماعي أو اقتصادي أدى إلى تقييد حرية تصرفه.

يشير “فك الرقبة” إلى إعانة الإنسان على التحرر من قيود مالية أو اجتماعية تضعه في وضعية تبعية أو ضائقة، وهو يكون أقل شمولية من “التحرير الكامل”. قد يتعلق بأعمال جزئية تهدف إلى تخفيف عبء محدد، وتقدير المساعدة يرجع لطبيعة المشكلة التي تثقل كاهل الشخص. ومع ذلك، فإن وروده في سياق “اقتحام العقبة” يوحي بأن الحالات المقصودة هي تلك التي يكون فيها الفك عملاً ذا شأن كبير ويتطلب جهدًا وتجاوزًا لعائق مهم.

الفرق بين “تحرير الرقبة” و”فك الرقبة”

يظهر من خلال التحليل أن “تحرير الرقبة” هو فعل أكثر شمولية يهدف إلى تغيير جذري في وضعية الإنسان المقيد، وإعادته إلى حالة من الحرية الكاملة من ذلك القيد المحدد الذي كان يكبله. بينما “فك الرقبة”، وإن كان عملاً عظيماً، قد يتناول حالات محددة تتعلق بفك قيود أو ضغوط معينة، وقد يكون تدخلاً لتخفيف أزمة دون أن يؤدي بالضرورة إلى تغيير كامل في وضعية التبعية الاقتصادية أو الاجتماعية للشخص، إلا إذا كانت هذه الضغوط هي العائق الأكبر. كلا الفعلين يصب في مصلحة الإنسان وتخليصه من الأثقال.

نقد المفهوم التقليدي للرق وعلاقته بـ”ملك اليمين”

كما أسلفنا، لا يوجد في القرآن إقرار أو تشريع لمفهوم الرق بمعنى استعباد البشر وتملك أجسادهم، بل إن مبدأ حرية الإنسان وكرامته هو الأصل. مفهوم “ملك اليمين” في القرآن، في فهمه الأصيل، يدل على علاقات اجتماعية واقتصادية مرتبطة بتبعية العمل أو الجهد ضمن عقد أو نظام يوفر منافع متبادلة، ولا يشمل بحال من الأحوال تملك جسد الإنسان أو الحق في بيعه وشرائه. فالرق بمعناه التقليدي (استعباد الإنسان) هو ظلم وعدوان، والإنسان في أصل خلقه حر، وأي ممارسات تاريخية سادت وربطت “ملك اليمين” بهذا الاستعباد هي ممارسات بشرية خاطئة وظالمة، وليست من تعاليم القرآن.

الخلاصة

تأسيسًا على النصوص القرآنية واللسان العربي المبين، يتضح أن “تحرير الرقبة” هو إزالة شاملة للقيود الكبرى التي تكبل الإنسان وتعيده إلى حالة الحرية الفعلية من تلك القيود. أما “فك الرقبة” فهو معالجة لوضعية تقييدية أو ضاغطة، قد تكون أقل شمولاً ولكنها ذات أهمية كبيرة. هذا الفهم القرآني ينسجم مع مبدأ حرية الإنسان وكرامته، ويقدم حلولاً مستمرة لمختلف أشكال القيود والاستعباد التي قد تظهر في أي مجتمع، بعيدًا عن إقرار أي شكل من أشكال استعباد الإنسان الذي يتنافى مع جوهر الرسالة القرآنية.