مفهوم أتى وجاء والفرق بينهما

“أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا”

   يزخر اللسان العربي بثراء فريد في مفرداته، حيث يحمل كل فعل وكل حرف دقة متناهية في التعبير عن المعنى. ومن بين الأفعال التي قد تبدو متطابقة بالمعنى للوهلة الأولى، الفعلان “أتى” و”جاء”. ولكنها تحمل فروقاً دلالية جوهرية بناء على قاعدة( إذا اختلف المبنى اختلف المعنى).

   تهدف هذه الدراسة إلى استجلاء الفروق الدقيقة بينهما، بعيداً عن الاقتصار على التعريفات المعجمية التقليدية، ومن ثم توظيف هذا الفهم في تحليل نص قرآني محدد، وهو طلب النبي سليمان عليه السلام في قوله تعالى: “قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ” (النمل: 38)، لبيان أن المقصود بالإتيان هنا يتجاوز مجرد النقل المادي إلى معنى أعمق يرتبط بالإنشاء والإيجاد.

أولاً: دلالة الفعل “جاء”:
الفعل “جاء” يعبر في جوهره عن بدء الوصول والحضور والانتقال من مكان إلى آخر، أو من حالة إلى أخرى. غالبًا ما يكون التركيز فيه على مجرد حدوث المجيء، دون إيحاءات قوية بجهد خاص مبذول من الفاعل لإحداث هذا المجيء، أو دون ارتباط وثيق بهدف محدد يحمله القادم معه كجزء أصيل من فعل المجيء ذاته.

  • مثال: “جاء الرجلُ من سفره.” (يفيد وصوله).
  • مثال: “جاء الليلُ.” (يفيد بدء حلوله).
  • مثال: “جاء الحق وزهق الباطل.” (يفيد بدء تحقق الحق وظهوره).
    قد يصاحب “جاء” حرف الجر “الباء” ليدل على المصاحبة  بشيء، كقولنا: “جاء بالخبر”، ولكن يبقى التركيز الأساسي على فعل المجيء نفسه، والشيء المجاء به يأتي تابعاً.

ثانياً: دلالة الفعل “أتى”:
الفعل “أتى” يشترك مع “جاء” في المعنى العام للقدوم والوصول، ولكنه يتميز عنه أنه يفيد حصول الشيء عموماً بعدة سمات دلالية تجعله أكثر عمقاً وتحديداً في سياقات معينة:

  1. القصد والغاية:غالباً ما يحمل فعل “أتى” معنى المجيء لتحقيق غاية محددة أو تلبية طلب. هناك شعور بأن الفاعل قد قصد الإتيان، وأن هناك دافعاً أو هدفاً وراء قدومه.
    • مثال: “أتى الطالبُ ليتعلم.” (الغاية هي التعلم).
  2. الإحضار والتقديم (عند اقترانه بالباء “أتى بـ”):هذه هي النقطة المحورية في دراستنا. عندما يتعدى الفعل “أتى” بحرف الباء “أتى بـ…”، فإنه لا يعني مجرد المجيء مصطحباً شيئاً، بل يتضمن معنى الإحضار الفاعل، والتقديم، والإيجاد، والتوفير. يصبح التركيز ليس فقط على حركة الفاعل، بل على الشيء المأتي به وكيفية توفره.
    • مثال: “أتى التاجرُ بالبضاعة.” (أحضرها ووفرها).
    • مثال: “أتى العالمُ بحل للمشكلة.” (توصل إليه وقدمه).
    • مثال: “أتى الشاعرُ بقصيدة جديدة.” (ألفها، أوجدها، لم تكن موجودة ثم أتى بها).
  3. القدرة والتحدي:في بعض السياقات، يوحي “أتى بـ” بالقدرة على فعل شيء قد يكون صعباً أو غير متوقع، وكأن الفاعل قد تغلب على عقبات ليأتي بالشيء المطلوب.
    • مثال: “فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ” (البقرة: 23). هنا تحدٍ وقدرة على الإنشاء والإبداع.
  4. الإبداع والإنشاء:وهنا النقطة الأهم لتطبيقنا. يمكن أن يدل “أتى بالشيء” على صنعه وإيجاده من العدم أو تكوينه وابتكاره، وليس بالضرورة نقله من مكان موجود فيه سلفاً. الفعل هنا يعبر عن عملية إخراج الشيء إلى حيز الوجود والظهور.
    • مثال: “أتى المهندس بتصميم فريد.” (هو الذي أبدعه وصممه).
    • مثال: “أتت الشركة بمنتج مبتكر.” (طورته وأنتجته).
    • في هذا المعنى، الفاعل هو مصدر الشيء المأتي به، هو الذي أوجده.

ثالثاً: الفروق الدقيقة بين “أتى” و “جاء”:

  1. التركيز:”جاء” يركز على فعل بدء الوصول، “أتى” (خاصة “أتى بـ”) يركز أكثر على حصول الشيء أو طلب حصوله وهذا يتضمن  المجيء وعلى الشيء المأتي به، وكيفية توفره.
  2. الفاعلية والإيجاد:”جاء بالشيء” قد تعني أنه كان معه أثناء مجيئه ووصوله. أما “أتى بالشيء” فيمكن أن تعني أنه  حصل فعل المجيء ومع الشيء أوأوجده، صنعه، ابتكره، أو حققه وقدمه. دلالة الإيجاد والإنشاء أقوى وأوضح في “أتى بـ”.
  3. الجهد والتحدي:”أتى بـ” قد تحمل معنى بذل الجهد والتغلب على صعاب لإحضار أو إيجاد المطلوب، بينما “جاء” أقل إيحاءً بذلك.

رابعاً: دراسة تطبيقية: “أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا” (النمل: 38)

قال تعالى على لسان نبيه سليمان عليه السلام: “قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ”.
يفسر الكثيرون هذا الطلب على أنه دعوة لجلب عرش ملكة سبأ ونقله مادياً من مملكتها إلى مجلس سليمان عليه السلام. ولكن، بالنظر إلى الدلالات العميقة لفعل “أتى بـ” التي استعرضناها، يمكن طرح فهم بديل أكثر انسجاماً مع سياق القصة وأهدافها.

  1. دلالة “يأتيني بعرشها”:استخدام “يأتيني بـ” هنا يفتح الباب لمعنى يتجاوز النقل المادي. لو كان المقصود مجرد النقل، لربما كان استخدام تعبير آخر مثل “يحضر لي عرشها” أو “يجلب لي عرشها” أكثر مباشرة. لكن “يأتيني بعرشها” يحمل إمكانية أن يكون المطلوب هو إيجاد عرش مماثل له في الهيئة والفخامة، أو إظهاره وتجسيده في حضرة سليمان عليه السلام، وليس سرقة العرش الأصلي أو نقله عبر المسافات الشاسعة.
  2. سياق الطلب وغايته:طلب سليمان عليه السلام جاء في سياق إظهار قدرة الله التي سخرها له، وبهدف اختبار ملكة سبأ ووفدها: “قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ” (النمل: 41).
    • اختبار الفطنة والتمييز:إذا كان العرش الذي عُرض عليها هو عرشها الحقيقي الذي نُقل بقدرة خارقة، فإن دهشتها ستكون منصبة على كيفية حدوث ذلك. أما إذا كان عرشاً صُنع أو أُظهر بشكل مطابق لعرشها مع بعض التغييرات الطفيفة (التنكير)، فإن الاختبار هنا سيكون أدق في قياس فطنتها وقدرتها على التمييز بين الأصل والصورة، أو إدراكها أن هناك قوة تفوق تصورها تقف وراء هذا الأمر. قولها: “كَأَنَّهُ هُوَ” (النمل: 42) يعزز هذا الاحتمال، فهي لم تجزم بأنه هو، بل شبهته به، وهذا يتناسب مع رؤية شيء مطابق ومُبدع وليس بالضرورة المسروق أو المنقول.
    • تجنب فعل السرقة أو الاستيلاء قبل الإسلام:طلب سليمان كان “قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ”. نقل عرش ملكة ذات سيادة وسرقته قبل أن تأتي طائعة مسلمة لا يتناسب مع مقام النبوة والحكمة. أما صنع أو إظهار عرش كآية واختبار، فهو أمر مختلف. لا يستلزم اعتداءً على ملك الغير.
  3. القدرة على الإتيان (الصنع/الإظهار):
  4. قال الذي عنده علم من الكتاب: “أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ” (النمل: 40). كلمة “طرفك” لا تعني طرف العين كما هو في بعض التفاسير لأن كلمة الطرف تطلق أيضاً على الرسول فهو طرف لمن أرسله ، وهذا يتناسب مع فعل إيجاد وإظهار العرش وصنعه ضمن وقت إقامة النبي سليمان وقبل أن يرجع الرسول، هذا فهم يتناسب  أكثر من عملية نقل مادي لعرش ضخم عبر آلاف الأميال.
  5. التنكير كدليل على الصنع للاختبار:الأمر بتنكير العرش “نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا” يصيرأكثر منطقية إذا كان العرش “المُؤتى به” هو عرش صُنع خصيصاً للاختبار. فالتغيير فيه يهدف إلى زيادة حيرتها ودفعها للتفكير والتأمل، وهو جوهر الاختبار.

الخاتمة:
إن التدبر في دقائق اللسان العربي، وبخاصة لسان القرآن الكريم، يفتح آفاقاً واسعة للفهم. فالفعل “أتى بـ” بدلالاته التي تشمل الإحضار، والتقديم، والإيجاد، والصنع، يمنحنا رؤية أعمق لطلب النبي سليمان عليه السلام. فبدلاً من حصره في النقل المادي، يمكن فهم “الإتيان بالعرش” على أنه إيجاده وصنعه كآية واختبار، وهو ما يتسق مع حكمة سليمان، وهدف اختبار الملكة، وسرعة الإنجاز، وتجنب ما قد يُفهم كاعتداء على ملك الغير قبل إسلامهم. هذا الفهم يعززه السياق القرآني وثراء الدلالة اللسانية لفعل “أتى”.