أُمَمٌ أَمْثَالُكُم قراءةٌ تكوينيةٌ عقلانية في ضوء النسق القرآني الكلّي

الآية المرجعية: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم، مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ، ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام: 38)

ملخص: يسعى هذا المقال إلى تقديم قراءة عقلانية تكوينية لآية (الأنعام: 38)، في ضوء النسق القرآني الكلي، بمنأى عن التفسيرات المجازية أو الإسقاطات العاطفية غير المنضبطة. وتقوم هذه القراءة على تحليل المصطلحات القرآنية ضمن سياقها البنائي والدلالي، مع التركيز على مفاهيم “الأمم” و”الكتاب” و”الحشر”، بوصفها مفاتيح تأويلية لمضمون الآية. تنطلق هذه الدراسة من فرضية أن الخطاب القرآني يتناول نظمًا تكوينية عامة تحكم الكائنات الحية، لا خطابًا وعظيًّا موجّهًا لكائنات عاقلة.

أولًا: مفهوم “الأمم” بين الكائنات الحية والإنسان تشير الآية إلى صنفين من الكائنات: الدواب والطير. ويتم وصفهما بأنهما “أمم أمثالكم”، وهو تعبير لا يفيد التماثل في الوعي أو التكليف، بل في كون كل صنف يمثل نظامًا تكوينيًا مستقلاً يخضع لتقدير إلهي خاص. فالأمة في اللسان القرآني لا تقتصر على التجمعات البشرية، بل تمتد إلى كل جماعة متجانسة في نمطها البنيوي والوظيفي، كالطيور والنحل والدواب. المماثلة، إذًا، هي في انتظام الكائنات ضمن منظومات خلقية، وليست في مقام التكليف أو الجزاء.

ثانيًا: دلالة “الكتاب” – من النص إلى التقدير الكوني ينبغي تجاوز الفهم المصحفي الضيق لـ “الكتاب” في قوله: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾. فالكتاب هنا يُفهم في ضوء النسق القرآني كـ “سجل كوني”، يشمل مجمل التقديرات الإلهية وسنن الخلق. وتدعمه آيات مثل: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ (يس: 12)، و﴿كُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ﴾ (القمر: 53). هذا الكتاب ليس ماديًا بالضرورة، بل هو نظام علِمي تكويني سابق للوجود الفيزيائي، يشمل كل ما في الكون من نظم وتقديرات.

ثالثًا: “يُحْشَرُونَ” – الحشر التكويني لا الأخروي ترتبط دلالة الحشر غالبًا بالمشهد الأخروي، إلا أن الاستقراء السياقي يظهر أنه يُستخدم أحيانًا بمعنى الجمع التكويني أو الإرجاع إلى النظام الإلهي العام، دون اشتراط وعي أو مسؤولية. فالحشر هنا يشير إلى ختام دورة وجودية ضمن نظام الخلق، لا إلى مشهد حساب خاص بمكلّف. الآية تتحدث عن الكائنات غير العاقلة (دواب وطير)، وهذه ليست موضع تكليف أو حساب شرعي، مما يدعم تفسير الحشر بأنه رجوع تكويني لا محاسبة أخروية.

رابعًا: منطق الخطاب القرآني وتحديد المخاطب يُبيّن النسق القرآني أن الخطاب الشرعي موجّه للكائن العاقل، أي الإنسان والجن، القادرين على الوعي والاختيار. أما الكائنات غير العاقلة، فلا تندرج ضمن دائرة التشريع، ولا تُخاطب بالأوامر والنواهي. وبالتالي، فإن جزاءها ليس أخرويًا بالمعنى المألوف، بل خضوعًا لقوانين خلقية تكوينية تنتهي برجوعها إلى خالقها.

خاتمة: تُبرز هذه القراءة العقلانية أن آية (الأنعام: 38) ليست تقريرًا لمساواة بين الإنسان والحيوان في المصير، بل هي تأكيد على وحدة النظام التكويني الشامل، الذي تُخضع له جميع الكائنات. إنّ محاولة تحميل الآية دلالات وعظية أو مجازية تُخالف النسق القرآني وتُعطِّل دقة المفاهيم. وتوصي الدراسة بضرورة تحليل المفردات القرآنية ضمن المنظومة الكلية للخطاب، وبالتمييز بين النظام التكويني العام والنظام التشريعي الخاص بالعاقل المكلّف.

الكلمات المفتاحية: الأمم، الكتاب، الحشر، النظام التكويني، النسق القرآني، العقلانية التفسيرية