يُولَد الإنسان في المجتمعات المتخلّفة متقاعدًا في مرحلة الشيخوخة

     نفي الفاعلية وغياب التحوّل الوجودي

    في المجتمعات المتخلفة، يُختزل عمر الإنسان إلى معادلة زمنية بيولوجية لا تتجاوز حدود النمو الجسدي. يُولد العربي أو المسلم غالبًا في واقع يُقصي فاعليته، ويُجهض تطوره المعرفي والنفسي والاجتماعي، ليجد نفسه متقاعدًا وجوديًا منذ لحظة ميلاده. ليست المشكلة في الفقر أو الجهل أو الظلم فحسب، بل في منظومة كاملة تُفرغ الإنسان من المعنى والدور، وتحوّله إلى كائن يعيش “الشيخوخة المبكرة” قبل أن يمر بأي شكل من أشكال “الحياة الوجودية”.

 

  أولًا: العطالة الوجودية – حين يُقصى الإنسان من الفعل

   ليست العطالة في المجتمعات المتخلّفة مجرّد بطالة اقتصادية، بل هي عطالة في المفهوم الأعمق للوجود الإنساني. يولد الطفل العربي في بيئة تُقرّر عنه ما يجب أن يكون، وتُحدّد مصيره من دون أن تمنحه فرصة للاختيار أو التعبير. المدرسة تلقينية، البيت سلطوي، والمجتمع قائم على الخضوع لا المشاركة. لا يُطلب منه أن يُفكّر، بل أن يُكرّر، لا أن يُبدع، بل أن يُطيع. هذه البيئة تُقصي الإنسان من دائرة الفعل، وتجعل منه “شيئًا” يتحرك ضمن نظام مغلق، لا “كائنًا” يصنع واقعه ويؤثر فيه.

   ثانيًا: الفقر البنيوي – أكثر من غياب المال

   الفقر في هذه المجتمعات ليس فقط فقر الجيب، بل فقر الوعي، وفقر البيئة المنتجة، وفقر السياسات التي تعيد إنتاج الحرمان. الإنسان الفقير لا يُعاني من نقص الموارد فقط، بل من غياب الإمكانية. لا يملك القدرة على التعلم، ولا يجد المؤسسات التي تفتح له أفقًا، ويُربّى على القبول بـ”القليل” كقدر محتوم. حتى الطموح يُصبح ترفًا، والنجاح الاستثنائي يُعامل كمعجزة لا كحق.

    ثالثًا: الجهل المؤسس – حين تتحول المعرفة إلى أداة قمع

   الجهل في المجتمعات المتخلّفة ليس غيابًا للمعرفة، بل نتاجًا مقصودًا لنُظم تعليمية وسياسية تُكرّس القطيعة بين الإنسان والعقل. يُلقَّن الطالب مناهج مفصولة عن واقعه، تُربّيه على الحفظ لا التفكير، وتُخضعه لسلطة النص الجامد بدلًا من إعداده لفهم النص في ضوء الواقع. هذا الجهل يُصنع، ويُعاد إنتاجه، ليبقى الإنسان تابعًا، عاجزًا عن التساؤل أو الفهم أو التغيير.

 

    رابعًا: الظلم البنيوي – انكسار الإنسان في صراعه مع السلطة

   الإنسان العربي والمسلم غالبًا ما ينشأ في بنية سياسية واجتماعية تُحوّله إلى رعية لا مواطن. يعيش في ظل سلطة ترى في سؤاله تمردًا، وفي حركته تهديدًا. العدالة غائبة، والقانون مرهون لأصحاب النفوذ، والفرص موزعة بحسب الولاء لا الكفاءة. هذا الظلم لا يُسحق به الجسد فقط، بل يُشوّه به الوعي، ويُربّى الناس على الرضى بالخضوع، بل والدفاع عن من يظلمهم أحيانًا.

    خامسًا: وهم المرور في مراحل الحياة – حين يصبح الزمن خدعة

    يمر الإنسان في هذه المجتمعات بمراحل العمر زمنيًا فقط: يولد، يذهب للمدرسة، يتخرج، يعمل، يتزوج، وينجب. لكن هذه المراحل تبقى قشرة زمنية فارغة، لا تحمل مضمون التحول الحقيقي. لا يمر في “مرحلة الطفولة” بمعناها الكامل من اللعب والاستكشاف، ولا يعيش “الشباب” كزمن لبناء الهوية واستقلال الذات، ولا يبلغ “الرجولة” أو “النضج” كحالة من المسؤولية والفاعلية، بل يجد نفسه من الطفولة إلى الشيخوخة متقاعدًا روحيًا ونفسيًا، ينتظر فقط أن يمضي الزمن ليؤدي دوره كمُستهلك لا كمُبدع.

 

   خاتمة

    نحو استرداد الفاعلية الإنسانية

   توصيف الواقع ليس غاية، بل دعوة إلى تغييره. المجتمعات لا تتقدّم بمجرد وجود الثروات أو التعليم الرسمي، بل عندما تُعيد للإنسان فاعليته، وتمنحه حق أن يعيش كل مرحلة من حياته كتحول نوعي، لا كمجرد عبور زمني. لا بد من ثورة معرفية، تبدأ بتحرير العقل من سجون الجهل المُمأسس، ومنح الإنسان فرصة أن يكون فاعلًا لا مفعولًا به. عندها فقط، لن يُولد الإنسان متقاعدًا، بل سيكون مولده بداية فعل حقيقي، يُسهم به في بناء ذاته ومجتمعه.