هل الخير خير بذاته، أم لأنه مأمور به؟

     منذ أن طرح سقراط في محاوراته السؤال الشهير: “هل الشيء خير لأنه مأمور به، أم أنه يُؤمر به لأنه خير؟” (المعروفة بمعضلة يوثيفرو)، والفكر الإنساني يتأمل في مصدر القيم الأخلاقية ومعنى الخير ذاته. هل الخير قيمة موضوعية يمكن إدراكها بالعقل؟ أم أن الخير لا يكون خيرًا إلا إذا صدر به أمر إلهي؟
سؤالٌ قد يبدو نظريًا، لكنه في جوهره يمسُّ أصل علاقتنا بالله، ومفهومنا عن العدالة، والحرية، والرحمة، بل وعن مفهوم أسماء الله الحسنى. وهذا النقاش له جذوره العميقة أيضاً في تاريخ الفكر الإسلامي، لا سيما في مباحث علم الكلام حول التحسين والتقبيح العقليين.

الإشكال: هل الخير مستقل عن الله؟
إذا قلنا إن الله يأمر بالخير لأنه خير، فهذا يوحي بأنه يوجد معيارًا للخير يعلو على الله، مما قد يُفهم وكأن الله خاضع لمعيار خارجي، وهذا ما لا يتسق مع المفهوم الإيماني لله ككمال مطلق ، لا يحكمه شيء.
وإن قلنا إن الخير هو ما يأمر به الله فحسب، فهذا يعني أن الخير قد يكون اعتباطيًا، وأن الله يمكن أن يأمر في أي وقت بما يخالف ما نعتبره عدلًا أو رحمة، فقط لأنه أمر بذلك. وهنا يصير الخير تابعًا لتغير الأمر، لا لجوهر المضمون، مما قد يفتح الباب لشبهة العبثية أو الظلم في الأفعال الإلهية.

فكيف نخرج من هذه الثنائية دون أن نفرّط في العقل، أو نُضعف الإيمان؟

محاولة الفهم الخاطئة: المفارقة الزائفة
الخطأ هنا يكمن في افتراض أن أمامنا خيارين لا ثالث لهما:

  1. إما أن يكون الخير معيارًا مستقلًا عن الله، وبالتالي الله خاضع له.
  2. أو أن الخير خاضع لإرادة الله، وبالتالي يمكن أن يكون متغيرًا أو نسبيًا.
    لكن هذا التصور ذاته مبني على افتراض غير دقيق لطبيعة الخير، وأسماء الله.

الخير لا يخضع لله… ولا الله يخضع له: نحو فهم متطابق
الفهم الأكثر اتساقًا مع العقل والإيمان معًا هو أن الخير ليس شيئًا مستقلًا عن أسماء الله، كما أنه ليس اختراعًا اعتباطيًا ناتجًا عن مشيئته فقط.
بل الخير هو تجلٍّ لأسمائه الحسنى الذاتية: كالعليم، والحكيم، والرحيم ….

فالخير في ذاته ليس معياراً منفصلاً يُقيّم الله أو يخضع له الله، بل هو متطابق تمام التطابق مع كمال أسماء الله الحسنى. فالله، في كماله المطلق، هو مصدر الخير ومنبعه، وأفعاله، ومنها أوامره، وهي بالضرورة تعبير عن مفهوم أسمائه الحسنى، وليست مجرد “نتيجة” عرضية له.

الله لا يأمر بالخير لأنه مضطر أن يتبع معيارًا خارجيًا، بل لأن أسماءه الحسنى الكاملة لا يصدر إلا ما هو خير.
إن الله لا يظلم العباد، لا لأنه ممنوع من الظلم بقوة خارجية، بل لأن الظلم نقص، والنقص لا يكون في من هو كامل باسمائه.
ولأنه عليم وحكيم في ذاته، لا يأمر إلا بما ينسجم مع الحق، ويكون الأمر به خيرًا.

القرآن: تأصيل رؤية منسجمة
يتضح من القرآن أن أوامر الله ليست مخالفة لأسمائه الحسنى:

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }النحل90

“وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ” (فصلت: 46)

(وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }الأعراف28
لا يأمر الله بالعدل لأن “العدل قاعدة خارجية”، بل لأنه هو العليم الحكيم الرحيم كامل العلم والحكمة والرحمة، وبالتالي لا يصدر عنه إلا ما يعبّر عن أسمائه الحسنى.

العقل والوحي: تكامل لا تضاد
العقل البشري السليم، المخلوق على الفطرة، قادر على إدراك الخير في عمومه وتمييزه عن الشر بشكل مبدئي، لأنه مخلوق على فطرة تعرف الخير والشر. لكن هذا الإدراك العقلي للخير، وإن كان أساسيًا، ليس مطلقًا ولا معصومًا، وقد يقصر عن إدراك تفاصيل الخير أو حِكَم بعض التشريعات. لذا، يأتي الوحي ليُكمل هذا الإدراك، ويهديه في التفاصيل والتطبيقات، ويضبط بوصلته، ويجلي له ما قد يخفى عليه من مصالح وحِكَم.
وهذا التكامل يفسر كيف أننا نثق بأن أوامر الله خير، حتى لو لم تتضح لنا حكمتها بشكل كامل في بعض الأحيان، لأننا نؤمن بأنها صادرة عن الله العليم الحكيم الحي القيوم الذي لا يأمر إلا بخير، وبذلك تتجلى الثقة في حكمة الله وورحمته المطلقين.

إذن، ليس الخير مستقلاً تمامًا عن الله، ولا هو تابع لإرادة غير مبررة أو اعتباطية، بل هو متطابق مع أسماء الله الحسنى الكاملة، وما يأمر به من خير ينبع من كماله الذاتي، لا من معيار خارجي، ولا من هوى إرادة.

خلاصة
السؤال الذي بدأ كمفارقة منطقية ينتهي إلى انسجام فلسفي وإيماني:

  • الله لا يأمر بالشيء لأنه مأمور من قبل معيار أعلى، بل يأمر به لأنه خير في ذاته، وهذا الخير متطابق مع كمال أسمائه االحسنى.
  • ولا يكون الشيء خيرًا لمجرد الأمر به بشكل اعتباطي، بل لأن الأمر صادر عن الحي القيوم العليم الحكيم الرحيم الذي  لا يصدر منه إلا الخير، فالأمر الإلهي هو كاشف عن الخيرية المتأصلة والموافقة لكماله.
    وهكذا يُمكن التوفيق بين سلطان الله المطلق وكمال أسمائه الحسنى، وموضوعية القيم الأخلاقية، دون أن نُضعف العقل أو الإيمان، معززين بذلك الثقة في علم وحكمة الله ورحمته المطلقة.