مفهوم التأويل لسانياً وقرآنياً
في خضم النقاشات الفكرية وتعدد الرؤى حول المفاهيم الإسلامية الأساسية، يبرز مفهوم “التأويل” كأحد أكثر المصطلحات التي تعرضت لتجاذبات وتأويلات متباينة، خاصة عند ربطه بفهم الرؤى أو النصوص المتشابهة. لقد شاع في بعض الأوساط، ولا سيما ذات المنحى العرفاني أو الباطني، فهمٌ للتأويل يجنح به نحو الشرح الرمزي الذاتي أو التفسير الظني الذي يفتقر إلى ضوابط علمية أو أدلة نصية قاطعة. إن هذا المنحى غالبًا ما يتأسس على تصورات ورغبات نفسية أكثر من استناده إلى برهان لساني أو استقراء قرآني منهجي ومنطقي.
لذلك، تهدف هذه الدراسة إلى إعادة تأسيس مفهوم “التأويل” انطلاقًا من أرضية صلبة: اللسان العربي المبين الذي نزل به القرآن الكريم، والاستعمال القرآني الحصري للمصطلح. إنها محاولة لتجلية الدلالة الأصيلة للتأويل، بعيدًا عن الإسقاطات التي لا تستند إلى دليل، مركزين على أن التأويل في جوهره القرآني هو التحقق الواقعي الملموس، وليس مجرد عملية ذهنية عرفانية.
أولاً: الجذر اللساني (أ – و – ل) ودلالته على التحقق
إن فهم أي مصطلح قرآني يبدأ بالعودة إلى جذره اللساني، فالحروف تحمل في بنيتها الصوتية والصرفية دلالات أساسية.
الجذر (أ و ل) يتألف من:
- الهمزة (أ):تشير إلى قوة البدء، أو ابتداء ظهور أثر أو انطلاق فعل أو فكرة.
- الواو (و):يدل على ضم وامتداد مكاني
- اللام (ل):حرف يدل على الانتهاء واللزوم، ويحمل معنى الثقل الدال على التحقق، الثبات، الدوام، والاستقرار النهائي.
من هذا التركيب الصوتي والصرفي، يتضح أن الجذر (أ و ل) يحمل في طياته دلالة عميقة على مسار يبدأ من نقطة انطلاق (الهمزة)، يمر بمرحلة امتداد وتطور (الواو)، ليصل إلى غاية نهائية يتحقق فيها الأمر ويستقر على صورته الحقيقية (اللام). هو الانتقال من القوة إلى الفعل، ومن الفكرة إلى الواقع، ومن البداية إلى المآل.
وعليه، فإن “التأويل” المشتق من هذا الجذر، لا يمكن أن يكون مجرد تفسير نظري أو تخمين ظني، بل هو عملية اكتمال الأمر ووقوعه الفعلي، وعودته إلى أصله أو حقيقته التي كان يؤول إليها منذ البداية. إنه تجسيد ما كان في عالم الغيب أو الذهن أو الوعد أو الرؤيا، ليصير حقيقة مشهودة في عالم الواقع.
ثانيًا: التأويل في الاستعمال القرآني – برهان التحقق
إن الاستقراء الدقيق للمواضع التي ورد فيها مصطلح “التأويل” في القرآن الكريم يكشف عن دلالة متسقة وواضحة، تؤكد المعنى اللساني المستنبط:
- قصة يوسف عليه السلام (الرؤيا وتحققها):
- قوله بعد تحقق رؤياه الأولى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَاتَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾ (يوسف: 100). النص هنا قاطع الدلالة؛ “التأويل” هو الوقوع الفعلي لما رآه في المنام، وتحوله إلى حقيقة ملموسة (“قد جعلها ربي حقًا”).
- قوله لصاحبي السجن: ﴿…ذَٰلِكُمَاتَأْوِيلُ مَا تَسْتَفْتِيَانِ فِيهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ (يوسف: 41). التأويل هنا هو الإخبار بما سيقع لهما حقيقةً في المستقبل، وهو ما حدث بالفعل.
- أثر تأويل يوسف لرؤيا الملك: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي…﴾ (يوسف: 54). هذا الموقف من الملك لم يكن ليحدث لولاالتأويل الصحيح الذي قدمه يوسف، والذي أظهر حقيقة ما ستؤول إليه الأحداث (سنوات القحط والرخاء). قرار الملك هو نتيجة مباشرة ومنطقية لتحقق أولي لمعالم التأويل الذي كشف عنه يوسف، مما أدى إلى تغيير جذري في قضية يوسف وخروجه من السجن بريئًا، وهذا يبرهن على قوة ومنطقية التأويل القائم على فهم مآلات الأمور.
- قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح (غاية الأفعال):
- قول العبد الصالح لموسى: ﴿سَأُنَبِّئُكَبِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ (الكهف: 78). ثم يمضي العبد الصالح في بيان الغاية الحقيقية والمآل الواقعي لكل فعل من أفعاله التي استنكرها موسى (خرق السفينة، قتل الغلام، بناء الجدار). “التأويل” هنا هو كشف الحكمة الخفية التي ستؤول إليها تلك الأفعال، أي نتائجها وتحققاتها النهائية.
ثالثًا: التمييز القرآني الحاسم بين التفسير والتأويل
يضع القرآن الكريم تمييزًا دقيقًا بين مصطلحي “التفسير” و”التأويل”، مما يعزز فهمنا للتأويل كتحقق:
- قال تعالى: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَتَفْسِيرًا﴾ (الفرقان: 33). “التفسير” هنا يعني البيان الشارح، وكشف المعاني وتفصيلها.
- وقال تعالى في شأن الآيات المحكمات والمتشابهات: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَتَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 7).
في هذه الآية المفصلية، “ابتغاء تأويله” من قبل أهل الزيغ هو محاولة معرفة المآلات النهائية للأمور الغيبية أو كيفية وقوعها التي استأثر الله بعلم كنهها الكامل، ويتبعون ما يتصورون في أذهانهم بمعزل عن المنطق والحق ودون الرجوع إلى النصوص المحكمة في دلالتها . وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾، يؤكد هذا المعنى. إن الواو في قوله ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ…﴾ هي واو استئنافية وليست عاطفة، والحجة السياقية هنا قاطعة في ذلك. فلو كانت عاطفة لكان المعنى أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابهات بنفس كيفية علم الله، وهذا يتعارض مع سياقات قرآنية أخرى ومع التفرد الإلهي بالعلم المطلق بمآلات الأمور الكلية. والخلاف في الرأي حول طبيعة الواو لا ينفي صواب القول بكونها استئنافية ما دام الدليل السياقي والمنطقي يدعمه. فالراسخون في العلم يُسلّمون الأمر لله فيما استأثر به من علم المآلات النهائية، ويقولون “آمنا به” إيمان منطقي علمي وفق المحكمات ويكلون لله التفاصيل والجزئيات التي لم يصل إليها علمهم. هذا يؤكد أن “التأويل” هنا هو العلم بمآلات الأمور في الواقع وكيفية تحققها النهائي الشامل، وهو علم يختص به الله تعالى على وجه الإطلاق والإحاطة.
رابعًا: الدراسة اللسانية القرآنية في مواجهة التأويل العرفاني اللامنطقي
في ضوء هذا التحليل اللساني والقرآني، يتضح أن مفهوم “التأويل” القرآني يتميز بالموضوعية والارتباط بالتحقق الواقعي. وهذا يقف على النقيض تمامًا من مفهوم “التأويل” كما هو شائع في بعض الطروحات العرفانية أو الباطنية. فالتأويل في تلك السياقات غالبًا ما يعني:
- إخراج الألفاظ عن ظواهرها المتبادرة بغير دليل لغوي أو سياقي معتبر.
- الاعتماد على الكشف المزعوم أو الذوق الشخصي أو الرمزية الغامضة.
- تفسيرات لا تستند إلى برهان نصي واضح أو منطق استدلالي سليم، بل هي أقرب إلىتصورات ذاتية ورغبات نفسية تُقحم على النص.
إن هذه المنهجية في التأويل العرفاني تفتقر إلى القيمة العلمية لأنها لا تخضع لمعايير التحقق والضبط، وتفتح الباب واسعًا للتلاعب بالنصوص وتحميلها ما لا تحتمل، بعيدًا عن مقاصد الشارع وهدي القرآن. أما التأويل بمفهومه القرآني الأصيل، فهو مرتبط بالواقع، بالتحقق، بالمآل الذي تشهد له الأحداث أو يكشف عنه النص بقرائن واضحة.
التأويل هو عودة الشيء إلى حقيقته المتحققة
إن الاستقراء اللساني والقرآني المنهجي يُظهر بجلاء قاطع أن “التأويل” ليس شرحًا رمزيًا باطنيًا ولا تفسيرًا ظنيًا مجردًا، بل هو: التحقق الفعلي والنهائي لشيء كان في صورة معلّقة أو غيبية أو رمزية (كرؤيا، أو وعد إلهي، أو خبر مستقبلي، أو غاية فعل)، بحيث يعود هذا الشيء إلى أصله المحتوم وحقيقته المكتملة في عالم الشهادة والواقع.
وهذا المفهوم ينسجم تمام الانسجام مع دلالة الجذر اللساني (أ و ل): من البدء (فكرة، رؤيا، وعد)، إلى الامتداد (سعي، أحداث، زمن)، فالوصول إلى التحقق النهائي والاستقرار على صورته الحقيقية. إن هذا الفهم للتأويل يعيد للمصطلح أصالته القرآنية، ويحصنه من الانزلاقات العرفانية التي لا تستند إلى دليل، مؤكدًا على أن كلام الله ورؤى أنبيائه وأفعال عباده الصالحين تؤول في نهاية المطاف إلى حقائق واقعة تشهد بصدق مصدرها..
اضف تعليقا