التنوير رحلة من الظلام إلى التسامح والتعارف
يُعد مفهوم التنوير حجر الزاوية في صرح الحضارة الإنسانية، ومنارةً تُضيء دروبَ التطورِ الفكريِ والاجتماعي، إنه ذلك المسعى الحثيث لإخراج الإنسان من غياهب الجهلِ وأوهامِ التقليدِ الأعمى إلى رحابةِ العقلِ النقديِ ونورِ المعرفةِ المستنيرة. وفي جوهره، يقوم التنوير على تحريرِ العقلِ من أغلالِ الدوغمائيةِ والانفتاحِ الواعيِ على آفاقِ الفكرِ الإنسانيِ المتجدد، دون الوقوعِ في براثنِ الانسلاخِ عن الثوابتِ القيميةِ الراسخة.
يثير هذا المفهوم العميق تساؤلاتٍ حولِ تجلياتهِ في مختلفِ المنظوماتِ الفكريةِ والثقافيةِ، ويستدعي بحثًا معمقًا في جذورهِ وتأثيراتهِ، وفي هذا السياق، يبرزُ المنظورُ القرآنيُّ للتنويرِ بوصفهِ إطارًا مرجعيًا ثريًا يُقدمُ رؤيةً متكاملةً تتجاوزُ حدودَ الزمانِ والمكانِ.
التنوير من منظور قرآني: إشراقة الهداية ونور الوحي
لا يقتصر مفهومُ التنويرِ في القرآنِ الكريمِ على مجردِ التحررِ العقليِ والمعرفيِ، بل يتجاوزهُ ليشملَ بُعدًا روحيًا وهدى عميقًا، فالنورُ في الخطابِ القرآنيِ ليسَ إضاءةٍ حسيةٍ، بل هو استنارةِ الفكرِ، والهدايةِ الإلهيةِ التي تُنيرُ للإنسانِ سُبُلَ الفهمِ السليمِ للعالمِ والحياةِ.
يُجلّي القرآنُ هذهِ الحقيقةَ في قولهِ تعالى: “قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ” (المائدة: 15). هنا، يُقرنُ النورُ بالكتابِ المبينِ، مما يُشيرُ إلى أنَّ الوحيَ الإلهيَّ هو المصدرُ الأسمى للتنويرِ، وهو الذي يُزيلُ غشاوةَ الجهلِ ويُرشدُ العقلَ إلى الحقائقِ الكونيةِ والإنسانيةِ الكبرى. إنَّ هذا النورَ القرآنيَّ يتجاوزُ حدودَ المعرفةِ التجريبيةِ ليُضيءَ للإنسانِ مداركَ جديدةً في فهمِ ذاتهِ ومصيرهِ وعلاقتهِ بالخالقِ وبالكونِ من حولهِ.
أثر التنوير القرآني في تعزيز التسامح: تجاوز الانغلاق الفكري
ينبثقُ من هذا الفهمِ القرآنيِ العميقِ للتنويرِ أثرٌ بالغُ الأهميةِ في تعزيزِ قيمةِ التسامحِ في العلاقاتِ الإنسانيةِ، فالتنويرُ الحقُّ يُحررُ العقلَ من براثنِ التعصبِ والانغلاقِ الفكريِ، ويُعلي من شأنِ الحوارِ البناءِ وقبولِ الآخرِ على اختلافِهِ.
لقدْ أكَّدَ القرآنُ الكريمُ على حقيقةِ التنوعِ الإنسانيِ بوصفهِ جزءًا أصيلًا من مشيئةِ اللهِ وحكمتهِ، وذلك في قولهِ تعالى: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ” (هود: 118). هذه الآيةُ الكريمةُ تُرسخُ مبدأَ الاختلافِ كحقيقةٍ كونيةٍ، وتدعُو إلى تجاوزِ النزعاتِ الإقصائيةِ وتبنيِ ثقافةِ القبولِ والاحترامِ المتبادلِ. فالتنويرُ القرآنيُّ يُبصرُ في هذا التنوعِ ثراءً وتكاملاً، لا سببًا للنزاعِ والفرقةِ.
التنوير والتعارف: أساس التفاعل الإنساني الحضاري
يتلازمُ مفهومُ التنويرِ في القرآنِ الكريمِ مع قيمةٍ إنسانيةٍ نبيلةٍ أخرى هي قيمةُ التعارفِ. فالاستنارةُ العقليةُ والروحيةُ تُفضي بشكلٍ طبيعيٍّ إلى إدراكِ أهميةِ التواصلِ والتفاعلِ الإيجابيِ بين الناس على اختلافِ ألوانِهم وألسنتِهم وثقافاتِهم.
يُعلنُ القرآنُ الكريمُ هذهِ الحقيقةَ بجلاءٍ في قولهِ تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات: 13). هنا، يكمنُ جوهرُ التنويرِ في إدراكِ أنَّ التنوعَ الثقافيَّ والاجتماعيَّ ليسَ مبررًا للصراعِ والتحاربِ، بل هو دعوةٌ صريحةٌ للتعارفِ والتواصلِ البنَّاءِ الذي يُثمرُ فهمًا أعمقَ للذاتِ وللآخرِ، ويُعززُ أواصرَ الأخوةِ الإنسانيةِ.
التنوير والتعايش السلمي: ثمرة التسامح والتعارف
يتطلبُ التنويرُ بمفهومِهِ القرآنيِ أيضًا الاعترافَ بحقِّ الآخرينَ في الوجودِ بسلامٍ وأمانٍ، وبناءِ جسورِ الثقةِ والاحترامِ المتبادلِ. فالتعايشُ السلميُّ ليسَ مجردَ غيابٍ للصراعِ، بل هو نتاجٌ طبيعيٌّ للتسامحِ الحقيقيِ والتعارفِ العميقِ.
وقدْ أشارَ القرآنُ الكريمُ إلى أهميةِ بناءِ علاقاتٍ إنسانيةٍ قائمةٍ على المودةِ والرحمةِ في قولهِ تعالى: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }المائدة2 “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” (الروم: 21). وإنَّ هذهِ المودةَ والرحمةَ لا تقتصرُ على العلاقاتِ الأسريةِ، بل تمتدُ لتشملَ التفاعلاتِ الإنسانيةِ الأوسعِ، مما يتطلبُ وعيًا تنويريًا يرفضُ العنفَ والتعصبَ ويُعلي من قيمِ العدلِ والإنصافِ.
خاتمة:
إنَّ التنويرَ في المنظورِ القرآنيِ ليسَ مجردَ حركةٍ فكريةٍ عابرةٍ أو تيارٍ ثقافيٍّ محدودٍ، بل هو عمليةٌ مستمرةٌ تهدفُ إلى الارتقاءِ بوعيِ الإنسانِ وفهمهِ لذاتهِ وللآخرينَ وللعالمِ من حولهِ. إنهُ سعيٌ دائمٌ لإدراكِ حقائقِ الوجودِ والقبولِ بالاختلافِ بوصفهِ سُنةً كونيةً وحكمةً إلهيةً. هذا الفهمُ العميقُ للتنويرِ يُعززُ قيمَ التسامحِ والتعارفِ والتعايشِ السلميِّ كركائزَ أساسيةٍ في بناءِ مجتمعاتٍ إنسانيةٍ ناضجةٍ ومزدهرةٍ، تُؤمنُ بالتنوعِ وتُعلي من شأنِ الحوارِ والتفاهمِ والاحترامِ المتبادلِ. إنَّها رحلةٌ مستمرةٌ من سُبُلِ الجهلِ إلى آفاقِ النورِ والمعرفةِ الإنسانيةِ الرحبةِ.
اضف تعليقا