النفس الإنسانية والتشابك الشعوري
نحو تأسيس فهم فوق- فيزيائي للتواصل النفسي
تجاوز الاختزال المادي في فهم الوعي الإنساني
يشيع في الخطاب المعاصر اختزال الكيان الإنساني في مكوناته البيولوجية، فيُخلط بين “الدماغ” كبنية عصبية مادية، و”النفس” كجوهر للوعي والشعور والتجربة الإنسانية. هذا التصور المادي الصرف، الذي يتعامل مع الوعي والمشاعر والأحلام كإفرازات عصبية بحتة، يقف عاجزًا أمام تفسير عمق التجربة الوجدانية للإنسان، ويُغفل الظواهر المتواترة التي تشهد بتواصلٍ شعوريٍّ عميق بين الكيانات الإنسانية دون وجود اتصال حسي ظاهر أو وسائط مادية معروفة، كما يتجلى في حالات التخاطر الحدسي أو الاستشعار الفوري لحالة ألم أو حزن يعيشها طرف قريب رغم البعد المكاني.
إن الإقرار بهذه الظواهر يقتضي تجاوز النظرة المادية الضيقة، والانتقال إلى مجال بحث يقر بأن التفاعل الإنساني لا يقتصر على الآليات الدماغية، بل يتم أساسًا من خلال “النفس”. والنفس، كما سنبين، ليست مجرد مفهوم فلسفي مجرد، بل هي كينونة حقيقية غير مادية، ذات طبيعة طاقية أو نورانية، تتجاوز في خصائصها وتفاعلاتها قوانين الفيزياء التقليدية المعروفة لنا.
أولاً: التمييز الجوهري بين الدماغ والنفس – أساس الفهم
لإرساء فهم دقيق، لا بد من التمييز المنهجي بين:
- الدماغ: وهو العضو المادي المركزي في الجهاز العصبي، وظيفته الأساسية هي معالجة الإشارات الحسية، التحكم في الوظائف الحركية والفسيولوجية، وتنسيق العمليات العصبية المعقدة. إنه بمثابة “الآلة” البيولوجية.
- النفس : وهي الكيان الجوهري للإنسان، ذات طبيعة غير مادية، وهي محل الإدراك الواعي، الشعور، الذاكرة الحقيقية (التي تتجاوز التخزين العصبي)، الإرادة الحرة، والقيم الروحية والأخلاقية. النفس هي التي تحلم، تتألم، تفرح، تتوق، وتتواصل على مستوى أعمق من الحواس. هي “المُشغِّل” لهذه الآلة.
ويدعم هذا التمييز الاستدلال من النص القرآني، الذي يشير بوضوح إلى استقلالية النفس عن الجسد المادي، كما في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الزمر: 42). هذه الآية تقدم برهانًا نصيًا على أن النوم ليس مجرد خمول عصبي أو فقدان للوعي الدماغي، بل هو حالة تنفصل فيها النفس جزئيًا عن الجسد، مما يجعل تجربة الحلم، في جوهرها، تجربة نفسانية تتم في أبعاد تتجاوز الجهاز العصبي المادي وآلياته.
ثانيًا: التشابك الشعوري بين النفوس – من الواقع المعاش إلى التأسيس النظري
كما أن فيزياء الكم قد كشفت عن ظاهرة “التشابك الكمومي حيث تظل جسيمات مرتبطة ببعضها البعض وتتأثر سلوكياتها بشكل لحظي بصرف النظر عن المسافة الفاصلة بينها، فإنه يمكننا، قياسًا مع الفارق في طبيعة الكيان، الحديث عن “التشابك الشعوري” بين النفوس البشرية. هذا التشابك ليس مجرد فرضية نظرية، بل هو حقيقة تؤكدها تجارب حياتية متواترة وعميقة:
- استشعار الأم لحال ابنها أو ابنتها، أو شعورها بخطر يحدق بهم حتى وإن كانوا في أماكن نائية.
- التواصل غير اللفظي والحدسي العميق بين التوائم المتطابقة، حيث قد يستشعر أحدهما ألم أو فرح أخيه دون أي وسيلة اتصال مادية.
- الشعور المتبادل بين الأحباء أو الأصدقاء المقربين، خاصة في أوقات الشدة أو الأزمات، حيث يشعر كل طرف بحالة الآخر بشكل تلقائي وفوري.
هذا النوع من التواصل لا يمكن تفسيره من خلال الآليات العصبية المعروفة، كالموجات الدماغية أو الإشارات الكهربائية، التي تضعف وتتلاشى مع المسافة. بل هو تواصل مباشر يتم من “نفس إلى نفس” عبر بُعد وجودي غير مرصود بالأدوات المادية الحالية، ولكنه ثابت في التجربة الإنسانية المتكررة.
ثالثًا: طبيعة النفس المتعالية وتجاوزها لقوانين العالم المادي
إن محاولة فهم النفس وآليات تواصلها ضمن إطار الفيزياء المادية، حتى بمفاهيم متقدمة كفيزياء الكم، قد تكون قاصرة. فظواهر الكم، على الرغم من غرابتها وتحديها للحدس الكلاسيكي، ما تزال تخضع لمنطق القياس، التكميم، والاحتمالات الرياضية ضمن إطار الكون المادي المرصود.
أما النفس الإنسانية، كما يطرح هذا المبحث، فهي:
- كيان ذو طبيعة طاقية أو نورانية شعورية، لا تخضع بالضرورة لقوانين القياس المادي أو التحديد الكمي الصارم الذي يحكم الجسيمات المادية.
- ليست جزءًا من النسيج الكوني المادي، بل هي أداة إدراك واعية فاعلة داخل هذا الكون، وربما متصلة بأبعاد وجودية أوسع.
- تواصلها لا يقتضي بالضرورة “نقل معلومات” عبر وسائط مادية تستغرق زمنًا، بل قد يحدث التأثر أو التواصل الشعوري بشكل لحظي (أو فوق-زمني) لأن النفوس قد تكون متصلة ضمن بنية وجودية فوق- مكانية وفوق- زمانية.
وعليه، فإن “التشابك الشعوري” ليس مجرد تشابك فيزيائي بين كيانات مادية، بل هو أقرب إلى تطابق أو تناغم في الحالات الشعورية بين نفسين أو أكثر. ويُعتقد أن لهذا التشابك شروطًا تزيد من احتمالية حدوثه وقوته، منها:
- قوة الرابط الشعوري والعاطفي:كالحب العميق، القرابة الوثيقة، أو الصداقة المتينة.
- شدة الانفعال وصدقه:عندما يكون أحد الطرفين في حالة انفعالية قوية وحقيقية (كالفرح الغامر، الحزن العميق، أو الخطر المحدق).
- صفاء النفس وقدرتها على الاستقبال:قد تكون النفوس الأكثر صفاءً أو حساسية روحية أقدر على استشعار هذه الروابط.
رابعًا: الموقف العقلي من الظواهر فوق- الحسية
إن الموقف العقلي السليم تجاه هذه الظواهر لا ينبغي أن يكون النفي المتعجل لمجرد أنها لا تتوافق مع النماذج المادية السائدة أو أنها غير قابلة للرصد المباشر بالأدوات التجريبية الحالية.
- نفي ما هو خارج نطاق الرصد الحالي هو قصور معرفي لا موقف علمي:
- فتاريخ العلم مليء بتحولات النماذج الفكرية واكتشاف عوالم لم تكن متصورة من قبل.
- الواقع المُعاش والتجربة الوجدانية المتواترة لهما قيمة برهانية: لا يمكن تجاهل شهادات الملايين عبر الثقافات والعصور حول هذه التجارب، واعتبارها مجرد أوهام أو مصادفات.
- دور العلم الحقيقي: ليس نفي ما لا يستطيع تفسيره حاليًا، بل هو البحث الدؤوب ضمن حدود ما يمكن تفسيره بأدواته المتاحة، مع ترك الباب مفتوحًا لما قد كشف عنه أدوات فهم أو نماذج معرفية أوسع في المستقبل.
نحو فهم أرحب للوجود الإنساني
إن النفس الإنسانية، بهذا المنظور، ليست مجرد “شبح في الآلة” أو وظيفة دماغية معقدة. بل هي جوهر قائم بذاته، كيان واعٍ وشعوري، يمتلك القدرة على التواصل والتأثر بغيره من النفوس عبر أبعاد تتجاوز ما استطاع العلم التجريبي الحالي إدراكه أو قياسه.
وما يُشار إليه بمصطلحات كالتخاطر، الاستشعار عن بعد، أو الاستبصار، أو الشعور الفوري بحال الآخرين، ليس سوى تجليات طبيعية لهذا “التشابك الشعوري” الأصيل. هذا التشابك قد لا يمكن رصده بالمجاهر أو أجهزة قياس الموجات الدماغية، ولكنه يُسجل بشكل متواتر في صميم التجربة الإنسانية اليومية عبر العالم. وهذه التجربة المتكررة، المقرونة بالاستدلال المنطقي والنصي، كافية لتأسيس حقيقة وجود هذه الأبعاد فوق-المادية للتواصل الإنساني، ودعوة إلى مزيد من البحث والتأمل في طبيعة وجودنا وماهيته.
اضف تعليقا