حاكمية الله عز وجل، وحاكمية الناس ( و المودودي و سيد قطب)

الحاكمية قسمان:
الأول: حاكمية الله عز وجل: وذلك بوضع تشريع حدودي إنساني دائم.
الثاني: حاكمية الناس: وتكون بالتشريع لمعالجات وأحداث مستجدة ضمن شرع الله الحدودي لا يتجاوزه أحد أبدًا [ تلك حدود الله فلا تعتدوها ] فتكون صفة التشريع الإنساني في حقل المباح منعًا أو سماحًا أو تنظيمًا و هي:
قومية وجزئية ومؤقتة للمجتمع الذي وُضِعَ له التشريع، والقاعدة في ذلك هي: [الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ورد النص القرءاني بتحريمه أو النهي عنه، والحرام مقيد بالنص والحلال مطلق، ولا يطبق المباح الاجتماعي إلا مقيدًا بنظام المجتمع].
هذا هو الأصل في التشريع الإنساني، ولكن هناك حالات استثنائية اضطرارية يفرضها الواقع نحو أكل الميتة للمضطر الذي يخشى على نفسه الهلاك. فيسمح له بتجاوز شرع الله الحدودي فيتناول الميتة، وذلك ليحفظ نفسه من الهلاك لأن الحياة للإنسان مقصد إلهي.
وذلك خاص بالمحرمات التي سمح المشرع بتجاوزها بخلاف قتل إنسان بريء فلا يجوز فعله للحفاظ على حياتنا.
ومن هذا المنطلق فرق العلماء بين المحرمات المتعلقة بحق الله، والمحرمات المتعلقة بحق العباد، فالمقاصد الإلهية هي الأساس والمآل الذي يجب أن ينظر إليها المشرع حين وضع التشريع في حيز التطبيق بالنسبة للأمة. فالتجاوز في حالة الاضطرار، والخروج إلى المقاصد، إنما هو تطبيق لأمر الرب بقوله:
{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ }الزمر55
فالشرع الحدودي هو أوامر الملك، كما أن تحقيق المقاصد وحفظها هي مراده سبحانه وتعالى.
هذه هي مسألة الحاكمية وتفصيلها، فلا يصح استخدامها بشكل مطلق، بل لابد من الشرح والتفصيل، ولعدم الشرح والتفصيل لمفهوم الحاكمية لله وقع المسلمون منذ عصر الأمويين بحروب وخلافات لم تنته إلى عصرنا الحالي. بدأ برفع القرءان على أسنة الرماح والمناداة بتحكيم كتاب الله. مما أدى إلى انشقاق جيش علي بن أبي طالب وخروج فئة نادت بأن لا حكم إلا لله رافضة التحاكم للرجال. لأن التحاكم للنص إنما هو في الحقيقة تحاكم إلى فهم الرجال لذلك النص، وهذا الفهم قابل للأخذ والرد، والتقدم والتأخر وكان الإمام علي رضي الله عنه مدركاً لسبب الدعوة إلى التحكيم لكتاب الله. فلذلك حذر أصحابه وقال لهم: إن ذلك خدعة واحتيالًا لكسب الوقت، وإنقاذًا لأنفسهم من الهلاك ونشرًا للخلاف والشقاق بينكم، وفيكم سمَّاعون لهم. وهذا ما حصل في الواقع من خلال التلاعب بالمفاهيم والتدليس ودمج ما هو بشري بما هو رباني واستغلاله لإعطاء الحرب صفة دينية، ومصداقية، وإخفاء الأهداف الحقيقية من وراء ذلك. فرد الإمام علي رضي الله عنه على شعارهم بمقولة حفظها التاريخ لتكون ردًا على كل من يرفع هذا الشعار بشكل عشوائي وارتجالي وانتهازي
[ كلمة حق أريد بها باطل ] .
فكان شعار حاكمية الله هو المفهوم الحيوي الذي يمتطيه من يريد أن يصل إلى السلطة ويتربع على كرسيها، فيحكم على من بيده السلطة بالكفر متهمًا إياه بمشاركة الله في صفة الحاكمية، ويرفع في وجهه شعار لا حاكمية إلا لله، ويستدل عليه بقوله تعالى:
{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } (الأنعام57)
وانتشرت الأدبيات بين المسلمين في هذا الموضوع، وكان أول من جدد المناداة بهذا الشعار في زمننا هو: أبو الأعلى المودودي وذلك في كتابه: المصطلحات الأربعة في القرءان.
وأخذ منه هذا المفهوم وشرحه بشكل مطول، ووظفه في العمل السياسي المناوئ للسلطة الأديب: سيد قطب. وذلك في معظم كتبه، وركز عليه في كتابه – معالم في الطريق – فقال: [ إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها. والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض، الحكم فيه للبشر بصورة من الصور، أو بتعبير مرادف. الإلوهية فيه للبشر في صورة من الصور، ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر ومصدر السلطات فيه هم البشر هو تأليه للبشر يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله ] انتهى.
وقال أيضًا في كتابه [ هذا الدين ]:
[ كل من ادَّعى لنفسه وضع منهج لحياة جماعة من الناس، فقد ادعى حق الإلوهية عليهم بادعائه أكبر خصائص الإلوهية وكل من أقره منهم على هذا الادعاء قد اتخذ إلهًا من دون الله، بالاعتراف له بأكبر خصائص الإلوهية] انتهى.
فالملاحظ من دراسة النص أنه نص أدبي وليس علميًا. وبالتالي فهو نص قائم على مخاطبة العاطفة، وتوظيف وترسيخ لمفاهيم دينية في غير محلها، وقد عرض الأمر وكأنه يوجد حرب بين الله، والناس على حكم الأرض، والاضطراب واضح في استخدام مفهوم الإلوهية، والربوبية، والخلط بينهما، فالنص لا يصلح للمناقشة العلمية لأنه خال من المنطق العلمي وهو نص ثوري ملتهب يدعو إلى التمرد والتكفير. وللأسف سرعان ما انتشر بين شباب الأمة لأسباب كثيرة، أهمها الاستبداد السياسي وغياب العدل والحرية بشكل كلي عن الساحة، وغياب الثقافة الواعية الجدية المسؤولية، وغياب التفكير الموضوعي، وغير ذلك من الأسباب لسنا في صدد دراستها الآن.
وقامت تكتلات وأحزاب على هذه الأدبيات الثورية، والقاسم المشترك بينهما جميعًا هو مفهوم – حاكمية الله -، ومن الطبيعي جدًا أن توجه جميع الأحزاب تهمة الكفر للسلطة الحاكمة، بل زاد عند بعضهم فوجه الكفر للمجتمع كله بأفراده، ولمن يخالفهم بالرأي. وتحركت هذه الأحزاب في الأمة وكل واحد منهم يحاول أن يعطي لنفسه صفة الحق ليسحب أكبر عدد ممكن من شباب الأمة والمؤيدين له.
واختار كل حزب طريقًا للوصول إلى السلطة فمنهم من سلك الإرهاب والعنف ومنهم من اختار العمل السياسي العسكري، ومنهم من اختار الانتخابات والبرلمانات، وغيرهم الإصلاح والوعظ. وهكذا تقاسموا الأمة المغلوبة على أمرها!!
حتى صار الناس، والأجيال الصاعدة تنظر إلى الإسلام من خلالهم بكل اختلافاتهم وصورهم فيقعون بحيرة من أمرهم، ويتساءلون أين الإسلام دين الله الحنيف؟!
لذا؛ لابد من نشر الوعي الثقافي الجاد مع تحمل المسؤولية، وتعليم الناس، وتربيتهم على التفكير الموضوعي، والتركيز على توضيح مفهوم حاكمية الله، وأن ذلك لا يُلغي حاكمية البشر فلكل منهما مجال، وأن الإسلام ليس فيه شكل دولة، وإنما يحتوي على نظام حدودي يتفاعل معه الناس كل حسب أرضيتهم المعرفية، ويختارون شكل الدولة الذي يناسبهم، ويقوم علماء الأمة بوضع تشريع يحل مشكلاتهم وينظم علاقاتهم ضمن شرع الله الحدودي.
{الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (البقرة229)
فصفة التفرد بالحكم بشكل مستقل، ووضع نظام كامل للخلق لا يكون إلا لمن كانت صفته الأزلية حيًا قيومًا متصفًا بالكمال المطلق، وهذا غير متحقق إلا بالخالق المدبر فله الوحدانية في الحكم [ إن الحكم إلا لله ] فهو الذي يضع نظامًا كاملًا متصفًا بالديمومة والصلاحية لكل زمان ومكان، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } (الملك14)
أما حكم البشر فيجب أن يقوم أساسه على المشاركة لأن التفرد بالحكم بشكل مستقل لا يكون إلا لله كما أن التشريع الذي يضعه البشر يجب أن يُنظر فيه ويعدَّل كل فترة وذلك من منطلق مصلحة الأمة، ويواكب مستجدات العصر الحاضر، وأي ثبات للشرع الوضعي وإعطائه صفة الديمومة والقداسة يكون ذلك العمل شركًا مع الله في التشريع الدائم للناس جميعًا عبر الزمان والمكان.
لذا؛ لا إله إلا الله، تعني لا لحكم الملوك، ولا لحكم الاستبداد والاستعباد، ولا لكل حكم يقوم على التفرد والوحدانية في السلطة السياسية، ولا لكل تشريع بشري تُعطى له صفة الديمومة والقداسة، ونعم لوحدانية الله في الحكم، ونعم للمشاركة في الحكم بين الناس على الصعيد السياسي والتشريعي والسلطوي.
فكان هذا التوحيد للحاكمية هو لمنع السلطة التشريعية من الذين يسمون أنفسهم رجال فقه وقانون من أن يعطوا لأنفسهم حق التشريع الدائم المطلق للناس، ويعطوه صفة القداسة والتعظيم. أي تصير له صفة الحكم الإلهي.
{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قليلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } (البقرة79)
من كتابي الإلوهية والحاكمية دمشق عام 1998