مفهوم العلم والبرهان والمصدر في القرءان

القرءان كتاب موجود بين أيدينا ، ويمكن لأي باحث أن يتصفحه ويطلع على فهرس مواضيعه من خلال أسماء سوره التي تعطي فكرة عن مضمونه وتوجه خطابه ككل, أليس هكذا نفعل عندما نريد أن ننظر لكتاب جديد قبل أن نقتنيه أو نبدأ بقراءته ودراسته ؟
تعالوا نفتح فهرس سور القرءان للإطلاع على المواضيع التي تناولها ونأخذ فكرة موجزة عنه
نجد أسماء سور تتعلق بالكائنات الحية غير الإنسان مثل
البقرة، الأنعام، النحل، النمل، العنكبوت، الفيل.
ونجد سور تتعلق بالوجود الكوني وظواهره مثل
الرعد، الدخان،النجم، القمر،الشمس، الليل ، الضحى، العصر، البروج.
وسور تناولت القصص والتاريخ وغيرها تناولت الإنسان والحياة والموت والمجتمعات والقيم و الأخلاق…..
فسور القرءان متعددة المواضيع وواسعة الطيف ، وهذا يدل على أن الكتاب عام وشمولي ومرتبط بالوجود بكل أبعاده، وهذا يدل على أن الكتاب عميق وليس سطحيا ً، وكتاب مهم وليس هزلاً ، وكتاب علم وليس جهلاً، فهو يحتوي نظرية معرفية ومنظومة قيم وأخلاق ونظام مجتمع إنساني….
وهذه الرؤية لفهرس سور القرءان تدفعنا لأن ندخل في ثنايا الكتاب ونحاول أن ندرس أو نعلم رؤية القرءان لمواضيع نختارها وهي محل تعلق موضوعنا.
موقف القرءان من الحرية
عندما يقرأ الباحث نصوص القرءان المتعلقة بالتكليف ( أمر ونهي) الذي يقوم على فلسفة المسؤولية يعلم يقينا أن المتكلم يخاطب كائناً عاقلاً حراً ضرورة ، وإلا اقتضى العبث في الخطاب والمسؤولية لأن الكائن غير العاقل لايُخاطب بهذا الشكل وليس هو محل تكليف ومسؤولية ، وهذا يعني أن الخطاب القرءاني التكليفي برهان على أن المتكلم يعد الإنسان كائناً عاقلاً حراً ويحترمه، وهذا ثابت منطقاً ، ومع ذلك سوف نعرض بعض النصوص التي تدل على مفهوم الحرية، ومفهوم التكريم ، و مفهوم الخلافة وهو مقام فوق العبد المملوك الذي لاإرادة له ، وأدنى من مقام الملك الذي له إرادة حرة مطلقة فعال لما يشاء، بمعنى أنه في مقام له صلاحيات منحه إياها الملك يتحرك على موجبها بما يفيد مصلحته.
-{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }البقرة30
-{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ }البقرة256
– {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ }الإسراء70.
والنتيجة أن الإنسان في القرءان هو كائن عاقل حر كريم جُعل خليفة في الأرض مسؤول عن أعماله واختياراته، وولد حراً، وكون الأمر كذلك لاحاجة لنص حرفي أن يأتي بتشريع الحرية للإنسان ويذكره بها لأنها تحصيل حاصل وحاجة نفسية كما أن التنفس حاجة عضوية، ولذلك معلوم بالضرورة حرمة استعباد حرية الإنسان وامتلاك قراره أو مصادرته وقمعه بأي صورة كانت، وهذا يندرج تحت تحريم الظلم{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }يونس44، وقد ذكر القرءان قصة فرعون وقارون وهامان مثلث الاجرام الذي يعرض علاقة التزاوج بين سلطة السياسة وسلطة الدين وسلطة الاقتصاد لاستعباد الشعوب وقمع حرياتهم.
أمر القرءان بالتفكر والتفكير والعلم في كثير من نصوصه لنقرأ: { وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الرعد3
{ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }النحل69
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ }محمد19
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ }العنكبوت20
كلمة العلم : من علم وهي تدل على حصول علامة على الشيء أو الحدث أو الأمر يترتب عليها تحصيل معلومات عنه تتعلق بالحكم على وجوده أو الحكم على كيفيته ، والعلم بالكيف يتضمن العلم بالثبوت ضرورة ، بينما العلم بالثبوت لايشمل العلم بالكيف، وعندما نعلم ثبوت الشيء نتعامل معه، بينما عندما نعلم كيفية الشيء نسخره لنا من خلال العلم بكينونته وسيرورته وصيرورته ونكتشف حركته السننية ، ولايخرج شيء عن هذين النوعين من العلم.
فعندما نقول هذا أمر علمي لابد أن يكون تحت أحد النوعين إما علم ثبوتي فقط ونتعامل معه ، أو علم كيفي نسخره لنا، وقد ذكر القرءان أن الوجود الموضوعي مصدر رئيس لتحصيل العلم (الواقع مصدر وموضع للعلم و التفكير) فأمر بالسير والحركة خارج القرءان لدراسة الواقع كما هو كيف حصل وسار وصار لاكتشاف سنة حركته وتسخيره ، وهذا العلم يُستخدم كمصدر للبناء عليه واستنبات العلم من المعلومات التي وصلنا إليها من خلال الاستنباط والاستقراء والتحليل والتركيب فنصل إلى مجموعة قواعد علمية منطقية ثابتة تكون موجهة ومؤطرة وميزان ومقياس لدراستنا وتحصيل المعلومات الجديدة.
فالعلم دراسة وسير في الأرض ( الواقع) وبناء معلومات على موجب تلك الحركة البحثية، والعلم حسب تعلقه يكون على أنواع :
-علم تجريدي مثل علم الرياضيات وله براهينه وهي أقوى البراهين
-علم عقلي فلسفي يتعلق بدراسة الحياة والموت وعلاقة الإنسان بهما وبما قبلهما وما بعدهما ودراسة النفس والمجتمع والتاريخ والقيم والأخلاق … وبراهينه منطقية فلسفية تعتمد على مصدر الواقع عموماً
-علم تجريبي يتعلق بالشيء الذي يخضع للحس والتجربة ، وبراهينه حسية تعتمد على الملاحظة والاستقراء والاستنباط ، ودرجة قوة براهينه نسبية مرتبطة بالحدث ذاته مع إمكانية تغيره في بيئة ثانية وظروف أخرى
-علم معرفي وهو تفاعل الإنسان مع الواقع من خلال حواسه الخمسة أو أحدها ولايتجاوز المعرفة الحسية مثل رؤية نزول المطر ونبات الزرع كسبب له، ومثل تذوق الطفل للأشياء وتمييزه بين الحلو والمر والحامض حسياً
والقرءان أمر أن نطالب كل مدَّعي بالبرهان وهو علامة قطعية أو على غالب الظن حسب تعلقها بالحدث أو نوعيته {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }النمل 64 ، فمثلا الرياضيات برهانها رياضي قطعي ، والمفاهيم والقضايا التي تتعلق بالحياة و الموت وعلاقة الإنسان بهما …. براهينها فلسفية قطعية ، أما الأمور الأخرى التجريبية والمعرفية فبرهانها نسبي قد يكون قطعياً وقد يكون على غالب الظن ولانملك إلا أن نتعامل معه لعدم قدرتنا بالقطع علما بكل شيء، وأقرب مثل لذلك مجال الأدوية الطبية ، فنحن أمام عدة خيارات أحدها ترك المريض أو المصاب ليهلك ويموت ، أو قبول الخرافة والدجل في علاجه ، أو تطبيق ما وصل إليه العلم على غالب الظن مع احتمال كبير للعلاج والشفاء بشكل نسبي .
وبهذا الشرح وصلنا إلى ان كلمة المصدر التي تعني المجيء للشيء ثم الخروج منه بمعلومات متعلقة بالوجود فهو مصدر عام لكل العلوم وليس نهائياً لأن التفكير مصدر للمعلومات أيضا من خلال استخدام المعلومات التي حصل عليها ويستنبت منها معلومات أخرى رياضية أومنطقية أو واقعية ، والتاريخ مصدراً ايضاً للمعلومات ، ويوجد مصدر آخر وهو الوحي الإلهي لمن ثبت عنده بالدراسة أنه حق وصدق فيصير بالنسبة له مصدر علمي يضاف للمصادر الأخرى ومنسجم معها فلايصح التناقض بين المصادر العلمية.
لذلك؛ أول أمر نفعله حين الدراسة هو تحديد نوعية الفكرة المعنية بالدراسة من أي نوع هي لتحديد نوعية البرهان ، لأن الفكرة تستمد صحتها من البرهان الذي هو من جنسها ، فمن يناقش بالرياضيات ينبغي أن يأتي ببراهين رياضية وليس ببراهين منطقية فلسفية ، ومن يناقش بطعوم مواد غذائية فبرهانه التذوق وليس برهان الرياضيات، وهكذا باقي الأمور ، فلا يصح أن تطلب برهان حسي لفكرة رياضية أو فلسفية !! وكذلك لايصح أن تطلب برهانا تجريبيا ً على صحة فكرة رياضية أو فلسفية ! كل فكرة لها برهان من جنسها .
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }الزمر9
{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }النمل64
القرءان كتاب يقوم على العلم و التفكير والدراسة والمنطق ويطالب بالبرهان على كل فكرة معروضة من أي كائن كان ، ولم يعط صفة المصدرية العلمية لقول شخص بعينه أو مجتمع أو أكثرية ، ولم يجعل لتقادم الزمن على فكرة أي قيمة علمية.
لذلك ؛ لاقيمة علمية لمن يدعي أن القرءان كتاب خرافي لوجود قصة البغل الطيار في التراث ، فهذا حَوَل فكري وهل التراث هو القرءان ذاته؟
أو يتناول بعض القصص القرءانية مثل قصة الهدهد أو النملة من القرءان ويتبنى فهم التراث الخرافي وينقد القرءان بناء على رؤيته التراثية، وكأن القرءان لايوجد فيه نظرية معرفية أو منظومة أخلاق وقيم ، أو نظام اجتماعي….ويترك كل ذلك ويلحق قصة الهدهد والنملة !!!ويستخدم التراث وجهله في نقد تلك القصص، ولو سأل طلباً للعلم لأجبناه بجواب منطقي ينفي عن هذه القصص التفسير الطفولي والخرافي، ولكنه لايريد إلا النقض والهدم والسخرية .
وعلى الحالتين فاللاديني يعتمد على التراث لينقض القرءان وهذا عمل غوغائي لايصح لأن مصدر الدين هو القرءان فقط ولاقيمة للأكثرية أو لتقادم الزمن أو كثرة المؤلفات في الدراسة النقدية .