مفهوم كلمة الخفاء

أورد القاموس أنَّ كَلمة (خفي) تدلُّ على السّتر والإظهار.

ومن هذا الوجه؛  تمَّ تفسير آية {إِنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىَ}  [ طه : 15 ] ؛  بمعنى أُظهرها؛  لأنَّ سياق النَّصِّ لا يحتمل دلالة السّتر؛  لأنَّها تتنافى مع فعل الإتيان،  فما هُو آت يكون في طريقه للظُّهُور،  وليس للسّتر.

وبناءً على هذه الاستخدامات؛  تأكدنا أنَّ كَلمة (خفي) من كَلمات التَّضادِّ تدلُّ على صورتين مُتضادَّتَيْن في الواقع (السّتر والإظهار).

إنَّ كَلمة (خفي) أصلها (خف)،  وهي تدلُّ على خلاف الثّقل والرّزانة.

نقول:  الرّجل خفيف الوزن،  وخفيف العقل.

فخفَّة وزن الرّجل،  لا تعني انتفاء الثّقل في وزنه،  فلا شكَّ أنَّ الرّجل له وزن،  والوزن هُو ثقل،  كما أنَّ كَلمة (خف) لا تعني ذهاب الوزن كُلِّه،  وهلاكه،  وإلاَّ كيف نصفه بالخفيف،  وكَذلك العقل ؟!.

فَمَنْ غاب عقله تماماً يصير مجنوناً،  ومَنْ مَلَكَ العقلَ يصير عاقلاً،  بخلاف خفيف العقل؛  فهُو يملك عقلاً قاصراً في إدراك الأُمُور.

إذاً؛  كَلمة (خف) هي وصف لحالة بين الإثبات،  والنَّفْي.

قال تعالى:  {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذّلّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيّ} [ الشُّورى : 45 ].

فعمليَّة النَّظَر الخفي،  ليست هي عمليَّة مستورة عن أعين النّاس،  وإنَّما هي عمليَّة بين السّتر والظُّهُور،  مستورةٌ عن مُعظم النّاس،  ومُلاحَظَة ٌمن آخرين،  إذا أمعنوا النَّظَر.

وقال:  {إِذْ نَادَىَ رَبّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} [ مريم : 3 ].

إنَّ النّداء لا يكون من الإنسان إلاَّ بصوت،  وعندما وصف اللّه U النّداء بصفة الخفاء؛  دلَّ على أنَّ الصّوت لم يكن جهراً؛  بحيثُ يسمعه مَنْ حوله من النّاس،  وليس هُو مكتوماً، لم يخرج من نفس زَكَرَيَّا،  وإنَّما هُو بين السّتر والإظهار،  إنَّه صوت خفي يسمعه زَكَرَيَّا بأُذنَيْه.

وقال:  {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىَ عَلَى اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } [ غافر : 16 ].

النّاس يوم القيامة بارزون،  وهذا البُرُوز يقتضي الظُّهُور،  وانتفاء السّتر والاختباء،  ولكنْ؛  يُحاول مجموعة من النّاس عمليَّة الاختفاء،  وهي تقليص لعمليَّة البُرُوز،  خوفاً وهَلَعَاً من أهوال الموقف؛  بحيثُ يصيرون أقلَّ من الآخرين بُرُوزاً،  وهذا يقتضي تشتيت الانتباه،  والتّركيز عليهم،  فيُخبر اللّه أنَّ أيَّ مُحاولة للخفاء في هذا اليوم،  هي مُحاولة فاشلة ومكشوفة من قبَل اللّه،  فالجميع تحت السَّمْع والبَصَر،  والعلم الإلهي.

وقال:  {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنّ} [ النُّور : 31 ].

إنَّ قيام المرأة بالنّشاط الاجتماعي – قطعاً – سوف يترتَّب عليه حَرَكَة،  وانتقال،  وحُضُور بين الرّجال،  فنهى اللّه  المرأة أنْ تُمارس أيَّ عمل،  يترتَّب عليه إعلام الرّجال (تصوُّراً) لما تُخفي من الزّينة،  واستخدم الشّارع كَلمةَ (يُخفين) ليدلَّ على أنَّ زينة المرأة مهما حاولت أنْ تسترها تبقى عمليَّة السّتر ناقصة،  ويُوجد من الزّينة ما هُو محلٌّ للتَّصوُّر الذّهني والظُّهُور بشكل خفي؛  سواء أكان من جهة الحجم،  أم من جهة الصُّورة.  ولو كان القصد الإلهي السّتر الكامل الذي لا يُوجد فيه إمكانيَّة الظُّهُور لاستخدم كَلمة (يسترن)،  أو (يُغطِّين)،  ولو تمَّ ذلك في النَّصِّ لتعذَّر على المرأة مُمارسة أيّ نشاط اجتماعي،  بل تعذَّر عليها الخُرُوج من البيت؛  إلاَّ تحت خيمة تُظلُّها وتُحيط بها من كُلِّ الجوانب(1).

ولإسقاط الفكرة على الواقع،  ووَضْع اليد عليها نضرب مثالاً؛  وهُو قولنا:  اختفى القمر في الغُيُوم،  توارى القمر في الغُيُوم.

ففعل (اختفى) يدلُّ على بدء دُخُول القمر في الغُيُوم؛  حيثُ يصير لا هُو ظاهر تماماً،  ولا هُو مستور تماماً،  فهُو بَيْنَ بَيْنَ،  وعندما يكون الأمر كَذلك،  فهُو قابل لأنْ يستمرَّ في عمليَّة الخفاء إلى جهة السّتر،  فيصير مستوراً،  أو يستمرّ في عمليَّة الظُّهُور،  فيصير ظاهراً.  فإن كانت حَرَكَة الغُيُوم في بدايتها،  فاختفاء القمر مآله إلى السّتر والتّغطية،  أمَّا إن كانت حَرَكَة الغُيُوم في نهايتها،  فمآل القمر إلى الظُّهُور،  وهُو في كِلا الحالتَيْن مُتحقِّق به صفة الخفاء،  أمَّا جُملة (توارى القمر)؛  فالمقصود بها ذهاب القمر وغيابه عن المُشاهدة؛  حيثُ يصير خارج مُستوى النَّظَر.

وبعد ذلك التّوضيح؛  نُفسِّر قوله تعالى:  {إِنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىَ} [ طه : 15 ] ؛  ففعل (أتى) –  كما ذكرتُ سابقاً –   يدلُّ على حُصُول الشّيء،  فقيام السّاعة حاصل لا محالة،  وفعل (أُخفيها) سائر في اتِّجاه الظُّهُور؛  دلَّ على ذلك فعل الإتيان،  فما هُو آت لا شكَّ في ظُهُوره،  ولا يُمكن أنْ يتمَّ ستره وتغييبه؛  لأنَّ ذلك يتنافى مع عمليَّة إتيانه (حُصُوله)، فمن هذا الوجه؛  تمَّ تفسير جُملة {أَكَادُ أُخْفِيهَا} بمعنى أُظهرها،  وهي من باب تفسير الشّيء بمآله،  ولكنْ؛  عند الدّراسة ينبغي إظهار المعنى الحقيقي للكَلمة،  والحفاظ على دلالتها من الواقع.

فالخفاء لساناً وواقعاً،  كَلمة تدلُّ على حالة بين السّتر والظُّهُور،  فالأمر المخفي ليس مستوراً تماماً،  ولا ظاهر تماماً،  وسياق النَّصِّ،  وإسقاطه على محلِّه من الخطاب،  يُحدِّد هل الأمر المخفي مُتوقِّف على هذه الحالة،  أو هُو في طريقه إلى الظُّهُور،  أو في طريقه إلى السّتر والغياب؟

إذاً؛  كَلمة (خفي) تدلُّ على مفهوم مُحدَّد لساناً،  ولا يُوجد فيه أيُّ تضادٍّ؛  لأنَّ التَّضادَّ،  إنَّما هُو في تَمَوْضُع  وصُور تشكُّل الدّلالة  في الواقع،   ومن ثم؛  ينبغي الانتباه أثناء الدّراسة لكُلِّ كَلمة يُخيَّل للباحث من الوهلة الأُولى أنَّها تدلُّ على مُتضادَّتَيْن،  فالكَلمة لها مفهوم واحد لساناً،  وإسقاطها على الواقع؛  له حالات ظَرْفيَّة تُلازم دلالة الكَلمة،  فمن الخطأ أنْ نشرح دلالة الكَلمة،  بالظَّرْف الذي لازم وزامن وُقُوعها فقط،  مثل من قال:  إن دلالة كلمة (خاتم)؛  إذا اقترنت بالعقلاء؛  فهي تدل على المدح،  والفضل،  والأحسن،  والأكمل،  ونفى دلالة الآخر منها (1)،  وفاته أن الإنسان غير قادر على استخدام الكلمة بصورتها العربية المبينة، وبالتالي يكون استخدامه مبالغ فيه،  أو نسبي في الفهم،  فمن يستطيع أن يحكم بصورة مطلقة أن فلاناً هو خاتم الشعراء أو العلماء؟،  بدلالة كلمة (خاتم) التي تقتضي ضرورة مفهوم الآخر؛  إضافة لمفهوم التواصل والإكمال والتصديق والإنهاء،  الذي ينتج عنه الحفظ والصلاحية والاستمرار للشيء المختوم،  وإذا أضيفت للعقلاء يلزم منها مفهوم الأفضل والأحسن دون إلغاء لمفهوم الخاتمية لساناً !،  لذا؛  ينتفي عن استخدام الإنسان  – كائناً مَنْ كان  –  لكلمة ما صفة الحجة أو البرهان على دلالتها،  والأحرى أنْ نأتي بمفهوم الكَلمة لساناً،  ونتناول الظَّرْف الذي لازم،  وزامن،  وُقُوع دلالة الكَلمة،  واستخدامها دون إلغاء للمفهوم اللِّساني،  ونفرق بين استخدام الإنسان لها بصورة نسبية وقاصرة،  واستخدام الله لها بصورة عربية مبينة منسجمة مع محلها من الخطاب(2).

انظرْ قوله تعالى:  {وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [ النّحل : 19 ].

{وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [ النور : 29 ].

{ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [ النّمل : 25 ].

{إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [ الحجرات : 18 ].

فكَلمة السِّرّ:  تدلُّ على الأقوال،  أو الأعمال التي يفعلها الإنسان بينه وبين نفسه،  أو مع غيره،  دُون أنْ يُطلع الآخرين عليها.

    كتم:  تدلُّ على إمساك الشّيء،  وعدم نُفُوذه.

    الإخفاء:  كَلمة تدلُّ على مُحاولة أنْ لا يُرى أو يُعلم الشّيء الحاصل،  وذلك بتقليص ظُهُوره إلى الحَدِّ الأدنى؛  حيثُ يُنتفى عنه صفة الظُّهُور،  وبالوقت ذاته؛  لا يغيب كُلِّيّاً.

    الغيب:  من غياب الشّيء كُلِّيّاً عن المُشاهدَة،  أو العلم به،  ويكون في الماضي والحاضر والمُستقبل.

   واللهُ يعلم الأحوال كُلَّها،  لا يغيب عن علْمه شيء،  سواء أكان سرَّاً،  أم خفاءً،  أم كتماناً،  أم غيباً.

(1) راجع كتابي ( القرءان من الهجر إلى التفعيل ).

(1) جماعة الأحمدية،  وذلك لإثبات نبوة ميرزا غلام أحمد؛   المهدي المنتظر،  والمسيح الموعود عندهم.

(2) راجع كتابي ( حوارات ثقافية) مفهوم الخاتمية.