أسلوب الخطاب الذكوري في اللِّسان العربي ليس خطاباً نوعياً
مقدمة
بداية القول؛ لا يرجع اختيار الضمير في خطابنا مع الله لنا نحن، وإنما يعود له، فهو صاحب القرار والشأن بنوعية الخطاب. وقد استخدم ضمير “هو”، وهذا لا يعني ذكراً أو أنثى، وكونه استخدمه فهذا يعني أنه المناسب والصواب، وما سواه خطأ بالضرورة. لذا نلتزم بما استخدم ولا نغيره، ونتابع الدراسة لنعلم سبب ذلك الخطاب، إذ ليس الاستخدام اعتباطياً كما يظن البعض، بل هو استخدام حقيقي.
أصل ضمائر “هو” و”هي”
ضمير “هو” و”هي” لا يدلان في أصلهما على نوع يحمل جهازاً ذكرياً أو أنثوياً. فليس الجنس الإنساني هو أصل اللِّسان العربي، وإنما أصل اللِّسان العربي هو الوجود الكوني، والجنس الإنساني جزء منه وليس العكس. لذلك نرى أن جنس الملائكة لا نوع لهم ونستخدم ضمير “هو” للمفرد في الحديث عنهم، وكذلك نرى أن النجوم والكواكب، نستخدم للحديث عن مفردها ضمير “هو” رغم أنها خارج التصنيف النوعي ذكر أو أنثى.
استخدام ضمائر “هو” و”هي” في اللغة العربية
نستخدم ضمير “هي” لمفرد جمع الحشرات مثل النحل والبعوض والنمل والذباب والفراش، بصرف النظر عن نوعهم ذكراً أو أنثى، فنقول: نحلة ونملة وبعوضة وفراشة وذبابة. انظروا لما حولكم وتفكروا في نوع ضمير الكلام عنهم، هل نستخدم “هو” أم “هي” رغم عدم وجود التصنيف النوعي لهم بالذكورة أو الأنوثة. مثلاً: “هي الشمس”، “هو القمر”، “السماء هي”، “الأرض هي”، “اليد هي”، “القدم هي”، “القلب هو”، “الشجرة هي”، “القلم هو”، “الرأس هو”، “العقل هو”، و”الإله هو”.
دراسة النحو العربي
أهل النحو كونهم اعتمدوا لدراسة اللِّسان العربي على الجنس الإنساني صاروا يدرسون اللِّسان من منطلق النوع الذكوري أو الأنثوي، وجعلوا الجنس الإنساني أصلاً كلياً لدراسة اللِّسان العربي، فعمَّموا النظرة الجزئية (الجنس الإنساني) على الكل (الكون)، وهذا خطأ كبير جدّاً. الصواب هو العكس، الكون هو الأصل الكلي الذي يشمل الجزء الإنساني. ونتيجة هذا الخطأ في الدراسة اضطروا إلى القول بالمجاز في استخدام ضمير “هو” و”هي” للوجود غير النوعي رغم سعته وكبره وتعدده، بمعنى أن كل ما يستخدم له ضمير “هو” أو “هي” وليس له نوع ذكوري أو أنثوي إنما هو استخدام مجازي وليس حقيقياً.
إعادة الأمور إلى حقيقتها
لذا؛ ينبغي أن نرجع الأمور إلى حقيقتها ونتعامل مع اللِّسان العربي من منظور كوني بداية وكأصل، ومنه ننظر للفروقات في الوجود الجزئي. بمعنى أن ضمير “هو” أو “هي” بداية لا يدلان على النوع الذكري أو الأنثوي، وإنما يدلان على سمات، ويظهر المعنى منهما حينما يضاف الضمير للأمر المعنيِّ بالخطاب. إذا كان محل الخطاب له جنس نوعي، يظهر نوع الذكر والأنثى، وإن لم يكن له جنس نوعي، يختفي نوع الذكر والأنثى.
الأصل الكوني في اللِّسان العربي
الأصل في اللِّسان العربي هو الخطاب الكوني وليس النوعي، مع إثبات الخطاب النوعي بشكل جزئي تابع للخطاب الكلي. الأمر بحاجة لدراسة كونية لسانية قرءانية متى نستخدم ضمير “هو” ومتى نستخدم ضمير “هي”، وما هو الضابط والمعيار والقاعدة في ذلك. هذه الدراسة لم تُعرض بعد في تاريخ الإنسانية لبُعدها عن الدراسة اللِّسانية الكونية القرءانية وحصر الدراسة بالتراث والنقل والسَّماع والالتزام بذلك.
مفهوم الذكر والأنثى
لا بُدَّ أن نعرف مفهوم الذكر والأنثى في الواقع:
• ذَكر: كلمة تدل على دفع وسط ملتصق مع ضغط خفيف منته بتكرار ما سبق. وتحققت هذه العملية في نوع من الكائنات الحية التي تعتمد في تكاثرها على اللقاح، فأُطلق عليهم اسم الذكر، فهي تسمية وظيفية.
• أنثى: أصلها “أنث”، وهي تدل على ظهور لطيف مستور منته بدفع خفيف ملتصق. وتحقق ذلك المفهوم بمجموعة في نوع من الكائنات الحية التي تعتمد في تكاثرها على اللقاح، فأُطلق عليهم اسم الأنثى، فهي تسمية وظيفية.
الذكر والأنثى يشكلان مع بعضهما الجنس الواحد، وعلاقتهما قائمة على التكامل الوظيفي؛ لا على التفاضل.
علاقة الذكر بالأنثى
إذا بحثنا في طبيعة كل من الرجل والمرأة، ووظيفتهما، وحركتهما في الواقع، نجد أن الرجل هو بمنزلة مركز الدائرة، التي تمثل المرأة محيطها، وينتج عن هذه العلاقة بينهما أولاد يطوفون حول المركز ضمن محيط الدائرة. إذا أسقطنا ذلك على الواقع؛ نلاحظ أن المركز والمحيط يشكلان الدائرة برمتها، ويكون المركز هو المسؤول عن ربط جميع نقاط المحيط به بصُورة لازمة.
هذا متحقق في حركة الرجل المركزية في أسرته؛ من حيث العناية بهم وتأمين الحياة الأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية لأفراد أسرته. الرجل -دائماً- في مقدمة الحياة الاجتماعية بالنسبة للأسرة، وحركة الرجل تمثل حركة الأسرة بكاملها، فعندما نخاطب الرجل (مركز الدائرة) يتضمن الخطاب الأسرة، كونها تمثل محيط الدائرة المرتبط بالمركز.
الخطاب الذكوري
الخطاب الذكوري؛ ليس هو تفضيلاً للنوع الذكوري على النوع الأنثوي، بل هو خطاب يعكس وظيفة الرجل وعلاقته بالمرأة في الواقع؛ من كون الذكر يشكل على الغالب الحماية، والعناية، والمسؤولية، والقيادة للأسرة خارجياً، ويؤمن سهولة قيام المرأة بوظيفتها داخل الأسرة؛ من تربية، وعناية، وإدارة وَفْقَ قيادة الرجل، ليُوجدا مع بعضهما علاقة جدلية تكاملية، قيادة الأب، وإدارة الأم.
استخدام الخطاب اللِّساني الذكوري
أي خطاب لساني يأتي بصياغة ذكورية، مثل: الذين، آمنوا، النّاس، القوم، الإنسان.. إلخ؛ يكون المقصد منه الرجل والمرأة على حد سواء. وأي تجمع أنثوي مهما بلغ عدده؛ إذا وُجِد خلاله إنسان ذكر واحد، يتحول الخطاب إلى الصياغة الذكورية. إذا أراد المتكلم تحديد خطابه للإناث فقط، يستخدم الصياغة الأنثوية. من هذا الوجه جاء الأسلوب اللِّساني الذكوري؛ ليدل على الخالق وصفاته، ليس كجنس، وإنما كدور الخالق وعمله في الواقع؛ من كونه الخالق المدبر المنعم، الذي يقود الناس إلى الفلاح، ويدير أمورهم كمركز للوجود كله؛ لذلك تُستخدم صفة الأب على الخالق؛ لتدل على وظيفة الأب المركزية بالنسبة لأسرته، وليس صفة الوالد، وتُستخدم صفة الرب لتدل على الإدارة والتدبير والعناية.
الخلاصة
أسلوب الخطاب الذكوري في اللِّسان العربي؛ ليس لتفضيل نوع على آخر، وإنما هو يعكس علاقة الذكر والأنثى في الحياة الاجتماعية ووظيفة كل منهما ودوره، كونهما يُشكلان مع بعضهما الجنس الإنساني، مثل علاقة محيط الدائرة بمركزها، وعلاقة المركز بالمحيط، فلا يمكن أن يكون المحيط هو المركز، ولا يمكن للمركز أن يكون المحيط، فلكل منهما دوره، ووظيفته التي يُكمل بها الآخر؛ ليشكلا مع بعضهما الدائرة.
وصف الخطاب بالذكر والأنثى هو شيء اصطلاحي وليس حقيقياً، وذلك لسهولة التفاهم والتواصل بين الناس، وتميل الناس في فهم الكون والأحداث إلى إسقاط الخطاب على نفسها. الواقع أن الاختلاف في أسلوب الخطاب يرجع لاختلاف في وظائف الأمور، انظر إلى الشمس والنجوم والكواكب والقمر… إلخ، صنفها أهل النحو من حيث الألفاظ إلى مؤنث ومذكر اصطلاحاً، وليس حقيقة، فالشمس ليست أنثى، وكذلك القمر ليس ذكراً!
4o