الرد على الدكتور شحرور في بحث الإلوهية من كتاب (الكتاب والقرءان)
لقد عَرَّفَ الدكتور محمد شحرور مفهوم الإلوهية: بأنه علاقة طاعة اختيارية من العاقل.
ومنطلقه في التعريف كان من نقطتين: الأولى: هي أن لفظة الإلوهية لم تأت إلا بسياق الخطاب للعاقل، والثانية: هي تفسيره لكلمة الإله بالمطاع.
وسوف نناقش كل واحدة، ونبدأ بالأولى:
لم تأت كلمة الإله في نص يتعلق بالسموات والأرض وإنما دائمًا تأتي بالنص بالمتعلق بالكائن العاقل وذلك راجع لطبيعة مفهوم الإلوهية فإنه مفهوم يقوم الإنسان بتحصيله من خلال تفاعل مع الواقع فيصل إلى أن هناك جهة متصفة بالأحدية والصمدية لها ثلاث مقامات [ الخالق، الملك، الرب ] يلزم منها العبادة والحاكمية والطاعة، فهذا المفهوم لا يدركه إلا العقلاء، فمن الطبيعي أن تأتي كلمة الإله متعلقة بالعاقل فقط دون غيره لأنه لا يصح أن نقول: إله السموات والأرض، لأن السماء والأرض لا تعقل هذا المفهوم، والصواب أن السماء والأرض داخلتان في ملكية الله عز وجل فنقول لله مُلك السموات والأرض، أو نقول: إن الله هو رب السموات والأرض كون الله قائمًا بعملية التدبير والإدارة لهما. فالأشياء التي لا تعقل لها مرتبطة بمقام الخالق ومقام الرب فقط.
أما الإلوهية فهي مفهوم عقلي وبالتالي فالله إله العقلاء، ورب السموات والأرض والخلق جميعهم.
فالله إله الناس جميعًا لأنه لا يوجد إنسان خال من هذا التفاعل الفكري والنفسي مع الواقع المحسوس، وبالتالي يستطيع أن يصل إلى مفهوم الإلوهية بصرف النظر عن الشرك الذي يقع فيه لأن شركه لم ينف عنده إلوهية الله عز وجل لأن الإلوهية حقيقة موضوعية لا علاقة لها بالسلوك الإنساني فالله أحد صمد، والإنسان يدرك ذلك بعقله، فإذا جحد شيئًا فلا يلتفت إلى ذلك لأن إلوهية الله هي شيء خارج الذهن الإنساني، والله إله الناس آمنوا به أم كفروا فإن هذا السلوك لا يغير من الحقيقة شيئًا.
وقوله: إن كلمة ( الإله) لم تأت مضافة للناسأما قول الدكتور: بأن الله هو رب محمد ورب أبي لهب، بينما هو إله محمد وليس بإله أبي لهب لأنه لم يؤله!.
فهذا الكلام خاطئ ومردود عليه لأن الربوبية مقام من مقامات الإلوهية ومن يعترف بربوبية الله ويوحده بذلك فهو قطعًا معترف بمقام الإلوهية وموحد به لأن الربوبية تستمد مصداقيتها من الإلوهية، فلذا؛ الله هو رب الجميع وإله الناس جميعًا سواء عصوه أم أطاعوه، فكما أن النبي محمد من الناس فكذلك أبو لهب من الناس. مع العلم أن أبا لهب كان يعترف ويقر بإلوهية الله عز وجل، ولا يملك أن ينكر ذلك لأن إلوهية الله حقيقة موضوعية وهي محل تسليم عند الناس فهي كامنة بلا شعورهم وهي موروث ثقافي، فإن أنكرها أحد لا يُلتَفَتُ إليه ولا يُسْمَعُ منه ويُعَدُّ إنسانًا يهذي بما لا يعقل وبالتالي تسقط قيمته بين الناس.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ }الزمر38
{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ }الزخرف9
{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ }الزخرف87
ولكن يستطيع أبو لهب وغيره من أن يدلس ويغطي الحقيقة الموضوعية من خلال فصل اللازم عن الملزوم ويقع في الشرك بالله عز وجل.
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }النمل14
وقد وردت كلمة (الإله) مضافة للناس صراحة {إِلَهِ النَّاسِ }الناس3، وقد برر ذلك الدكتور شحرور في أحد لقاءاته عندما عرضتها عليه : أن ذلك من باب ما ينبغي أن يكون وليس ما هو كائن.
وأقول: إن دلالة كلمة الناس الأصل بها العموم مالم تأت قرينة تحددها بمجموعة مثل : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }آل عمران173
فدلالة كلمة الناس الاولى تعني مجموعة من الناس وليس كلهم وهي غير دلالة كلمة الناس الثانية التي تعني مجموعة أخرى.
فهل دلالة كلمة الناس في سورة الناس عامة أم خاصة؟ فهل يعقل أن دلالة رب الناس وملك الناس عامة لكل الناس بينما كلمة إله الناص خاصة ؟
فلذا؛ الله هو إله أبي لهب وغيره، أي الله هو الخالق الملك الرب للناس جميعًا لا يملك أحد منهم أن يغير هذه الحقيقة ولكنهم يملكون أن يفصلوا لوازم هذه المقامات- الخالق الملك الرب- التي هي العبادة والحاكمية والطاعة، فيشركون بها ويصرفونها لغير الله عز وجل ظلمًا وزورًا وبهتانًا وتدليسًا وتكبرًا وفسادًا في الأرض وعلوًا كبيرًا.
أما تفسيره كلمة الإله بالمطاع فلقد أثبتنا أن ذلك خطأ في فصل استخدام القرءان لكلمة الإله.
قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ }{مَلِكِ النَّاسِ }{إِلَهِ النَّاسِ } (الناس1-3)
وكلمة الناس كما عرفها الدكتور نفسه تشمل المؤمن والكافر فالله هو رب الناس مؤمنهم وكافرهم وكذلك هو مليكهم وكذلك هو إلهم وهذا واضح وصريح من خلال نظم الخطاب الإلهي الذي لا يحتمل أي تأويل ولا مبرر للتفريق بين ربوبية الله للناس وإلوهية الله للناس فما ينطبق على الأولى ينطبق على الثانية أما تعليله لذلك بأن المقصود بإله الناس هو الوصف الموضوعي الحق ما قبل اختيار الناس فإلههم الله الذي يجب أن يؤلهوه لأنه هو الإله الحق وما سواه باطل ولكن بعد أن اختاروا إلهًا غير الله لا يصح أن يقال عليهم بأن الله هو إلههم إلا من باب أنه الإله الحق الذي يجب أن يؤلهوه.
فالغريب أن ذلك الكلام ينطبق أيضًا على الربوبية، فالمشركون أشركوا بمقام الربوبية، ولذلك يجب على الدكتور أن يطبق الكلام نفسه على جملة [ رب الناس ] و لا فرق بينهما من حيث الإيمان أو الكفر أو الوحدانية والشرك فيجب عليه أن يقول: إن الله هو رب الناس بالوجود الموضوعي الحق قبل اختيارهم ولكن بعد اختيارهم ليس هو ربهم وكذلك ليس مليكهم وليس إلههم، ولكنه لم يفعل ذلك ووجدنا أنه فرق بين كلمة الناس في الآية الأولى حيث جعلها مستمرة إلى ما بعد اختيار الناس وبين كلمة الناس في الآية الثالثة وحصرها بما قبل اختيار الناس.
وفي الآية السابقة التي هي{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } (الزخرف84)
حجة عليه أيضًا إ كيف يكون الله إله من في الأرض بمعنى المطاع أو المعبود وفي الواقع هو ليس كذلك بدليل الكفر الموجود في الأرض وهذا الإشكال يسوقه إلى التكلف والتبرير السابق الذي صرف به إلوهية الله للناس وهذا لا مبرر له وهو لف ودوران وتحكم بالنص دون برهان وذلك نتيجة وضع معنى مسبق لكلمة الإله ومن ثم لوي عنق النصوص كلها لهذا المعنى وهذا خطأ كما بينا ذلك.
– وأخطأ أيضًا عندما علق على قوله تعالى: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (هود56)
فقال: إذا كان الله ربنا وربكم فعلام الخلاف؟ إذًا الخلاف على الإلوهية.
فماذا نصنع بقوله تعالى: [ وإلهنا وإلهكم واحد ] فإذا كان الله إلهنا وإلههم فعلام الخلاف؟ إذًا الخلاف على الربوبية وهذا طبيعي حسب تفسيره السابق ولكن هذا التفسير يضرب فكرة أن الربوبية ليست محل خلاف، وبالتالي هي مطلب إيماني وعليها نزاع بين الرسل والناس كما بينا ذلك.
– وقال أيضًا لو طلب الله من الناس قول: لا رب إلا الله لأتبعها بقول محمد نبي الله وكما لاحظنا فيما مضى أن لا رب إلا الله هي متضمنة تحت لا إله إلا الله، ومحمد نبي الله أيضًا متضمنة تحت محمد رسول الله، فإذًا هي مطلب إيماني وطلبها الله من العباد، وعدم طلبها لفظًا بشكل صريح لأن لا إله إلا الله محمد رسول الله أشمل وأوسع لأن كل إله رب ولا عكس وكل رسول إلهي إنساني هو نبي ضرورة.
من كتابي الإلوهية و الحاكمية
دمشق /1998/
اضف تعليقا