الإنسان الكائن الرّوحي

قد عرفنا أنَّ البشر هو كائن رحمادي حي مثل الكائنات الحية الأخرى ظهر على وجه الأرض منذ بضع مئات الآلاف من السّنين، ويعتمد في حياته  على أكل اللّحوم النّيئة، والثّمار من الغابات مُباشرة، فكان مفسداً في الأرض، من جراء تعامله ـ مع الغابات ـ بصُورة غير واعية، يقطع الأشجار ويكسر الأغصان، مثله مثل أي جنس حيواني آخر، ويسفك الدّماء، نتيجة تناوله لحم الحيوانات، واستمر على هذا النهج إلى ما شاء الله له من الحياة، التي تعرّض خلالها إلى تطور في دماغه، وجسمه، وحركته؛ حسب المشروع الإلهي؛ إلى أن وصل إلى المستوى المراد؛ على سُلّم التّطور.

قال الرب: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }  (البقرة 30).

قالت الملائكة: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } ؟

قال الرب: { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

فماذا تغير في واقع حال هذا الكائن البشري ؟ وكيف سيصير في مقام الخلافة ؟ نجد جواب ذلك في قوله تعالى:

{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } (السّجدة 7 ـ 9).

لاحظ حرف ( ثم ) بين المراحل الثّلاثة، وهو حرف عطف، يفيد التّرتيب مع التّراخي، والفاصل الزّمني بين المراحل.

المرحلة الأولى: بدء خلق الإنسان من طين في المرحلة البشرية.

المرحلة الثّانية: جعل نسله من ماء مَهين(1). 

المرحلة الثّالثة:  فيها ثلاث صفات،  تمت في الواقع تباعاً:    

أ ـ تسوية الكائن البشري. 

  ب ـ النّفخ فيه من روح الله. 

  ت ـ جعل السّمع والبصر والفؤاد للجنس كله، بصُورة تفاعل بعد النّفخ  فيه من الرّوح { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }

هذا النّص صريح، في أن عملية خلق الإنسان الحالي، لم تتم مُباشرة بهذه الصّورة، بل مَرَّت بمراحل ثلاثة ـ بينها فترات زمنية ـ إذ بدأ خلق الكائنات الحية من الطّين، واستمر تكاثرهم ـ بطريقة ما ـ إلى ما شاء الله من الزّمن، تعرضوا خلاله للتّطور، والتّصنيف، والتّمييز فيما بينهم، كل حسب ما رسم الله له، إلى أن وصلوا إلى مرحلة الأجناس(2)، واستقلال كل جنس وحده في الواقع(فشجرة البشر غير شجرة القرود)، فجعل الله تكاثرهم عن طريق الماء المَهين، واستمروا على ذلك فترة زمنية، محافظين على صفاتهم الوراثية، يتعرضون لعملية التّسوية، والتّأهيل في أجسامهم؛ ليتكيفوا مع البيئة، والوظيفة التي خُلقوا من أجلها، وعلى ُسلَّم التّسوية، وصل الكائن البشري إلى الصّورة، التي أرادها له الخالق؛ قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ } (الانفطار7 ـ 8 ).

وتسوية ُالكائن البشري، عملية ٌ، تناولت تناسب أعضاء جسمه وتعديلها، وانتصابه على قدميه، وتسوية ظهره، وإطلاق يديه، وكانت هذه العملية بسبب خضوع الكائن البشري، لسنن إلهية، دفعته إلى هذه التّسوية، بإرادة مسبقة من الخالق.

وصار الكائن البشري مستعداً ـ من النّاحية الجسمية ـ  للانتقال إلى مقام آخر؛ كي يمارس مهمته، فحان دور النفخ فيه من الروح.

فما هو الشّيء الذي نُفخ في جسم الكائن البشري الحي ؟

قد علمنا ـ آنفاً ـ أنَّ الكائن البشري، هو كائن رحمادي ( روح ومادَّة ) في الأصل، وهو كائن حي، قبل النفخ فيه من الرّوح؛ ممَّا يُؤكِّد أنَّ هذا النّفخ ـ بعد عملية التّسوية ـ ليس هو من الرّوح الملازمة للمادَّة ابتداء؛ لأن هذه الرّوح مشتركة مع كل الكائنات أصلاً، وكذلك، ليس هو من روح الحياة (الخلية )؛ لأنه كائن حي قبل النفخ فيه من الروح.

إذن، ما هي هذه النّفخة الرّوحية، التي نُفخت في الكائن البشري، وجعلته أهلاً لمقام الخلافة في الأرض ؟

لنر ذلك، من خلال تحليل أصوات أحرف كلمة ( نفخ ):

ن: صوت يدل على ستر، أو اختباء.

ف: صوت يدل على فتح منضم.

خ: صوت يدل على رخاوة، وطراوة، وليونة.

ومجموع أصوات كلمة ( نفخ ) يدل على دُخُول شيء في آخر، وارتخائه فيه

نحو: نفخ الهواء في الكرة، وفي الواقع ترتب على ذلك ظُهُور، وعلو، وامتلاء الشّيء المنفوخ.

إذن، يُوجد شيء قد نُفخ في الكائن البشري، ودخل فيه، وهذا الشّيء المنفوخ، هو الذي أعطى الكائنَ البشري القيمة َمن خلال امتلاكه للوعي، والاستقلالَ في وُجُوده كفرد ينتمي إلى جنس، وجعله كائناً يستحق مقام الخلافة، فالنّفخة من الرّوح ـ في الكائن البشري ـ لم تجعله كائناً حياً؛ لأنه – في الأصل-  حي، بل جعلته كائناً واعياً، مُدركاً لذاته، وغيره، وترتب على ذلك تفعيل الدّماغ، والحواس الخمسة، التي قامت بنقل الإحساس بالواقع إلى هذا الشّيء المنفوخ في الكائن البشري، فتمت عملية التّواصل مع العالم الخارجي بصُورة واعية، وتَفعَّل السّمع، والبصر، والفؤاد.

هل علمتم ما هو هذا الشّيء المنفوخ من الرّوح في دماغنا الذي بموجبه ارتقينا من عالم البشر، إلى عالم الإنسان(1) ؟

إنها النّفس الإنسانية؛ الكائن الرّوحي  المنفوخ في الكائن البشري، التي دخلت فيه، وسيطرت عليه، وتحكمت به من خلال تحكمها في الدّماغ، وصار بها كائناً إنسانياً.

فالنّفس، كائنة روحية  تميز بها الكائن البشري دون الكائنات الأخرى،  وصار هذا الكائن الإنساني محلاً للخطاب الإلهي، ومحلاًً للمسؤولية والحساب، ومُؤهلاًً لمقام الخلافة في الأرض.

أما عملية تفعيل السّمع، والبصر، والفؤاد؛ فهي عملية متروكة للإنسان حينما يلد في وسط اجتماعي؛ لذلك يقول الفلاسفة: الإنسان كائن اجتماعي؛  لأنَّ المجتمع، هو الذي يصنع شخصية الإنسان، ويُفَعِّلُ عنده السّمع، والبصر، والفؤاد؛ لذلك نلاحظ أنَّ النّص الإلهي قد انتقل من حالة الخبر في الصّياغة:

{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }  إلى حالة الخطاب المُباشر{ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } ، فبدأ الكلام عن خلق جنس  مستخدماً الحالة الفردية، إذ أن ما ينطبق على الفرد، ينطبق على الجنس كله، إلى الحالة الجماعية؛ لأن كل فرد مستقل في شخصيته عن الآخر، وهذه الاستقلالية لا تأتي مع الإنسان ولادة، بل؛ يصنعها المجتمع تربية، وثقافة؛ اقرأ النّص الإلهي، مرة ثانية، وثالثة:

{ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }

جسم+ طاقة حياتية + روح (نظام)+ صُورة = كائن بشري.

كائن بشري + روح (نظام) + نفس = إنسان.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كلمة( مَهين) بفتح الميم من الفعل الثلاثي (هان يَهين هَوناً)، وهي تدل على سهولة الأمر أو ضعفه. انظر قوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }مريم9 ،

وبضم الميم (مُهين) من الفعل الرباعي (أهان يُهين إهانة)، انظر: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }الحج57.

(2) ينبغي الانتباه إلى أن الخطاب المتعلق بخلق  البشر يشمل الكائنات الأخرى تماماً، ولم يُذكر ذلك لحصول الفهم ضرورة من خلال التماثل في الواقع، فالحيوانات خُلقت من تراب وماء(طين) وتؤول إلى التراب حين موتها، وجُعل نسلها من ماء مَهين(التكاثر بواسطة اللقاح)، والفرق بين الحيوانات والإنسان هو نفخ النفس في الكائن البشري فقط بواسطة الروح، فصار بها إنساناً ومحلاً للخطاب الإلهي، ولمقام الخلافة في الأرض، أما النص الذي يقول:{وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} نوح17، فكذلك يشمل الكائنات الحية كلها، وكلمة (نبت) تدل على الشيء المستور المتجمع باستقرار المنتهي بدفع خفيف،انظر قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً }آل عمران37، وتحقق ذلك من حيث أن مواد الخلق(العناصر) للكائنات الحية ابتداء هي من عناصر الأرض، والآن رغم أن النسل صار من ماء مَهين فعملية النبات للعناصر الأولى المُكَوِّنة للماء المَهين مازالت من نبات الأرض، فحياة الكائنات النباتية أو اللاحمة تعتمد على ما ينبت من الأرض، وهذا الغذاء يتحول في جسمها بإذن الله إلى ماء مَهين يتم التكاثر من خلاله، فعملية الإنبات للكائنات الحية من الأرض مازالت مستمرة رغم التكاثر من ماء مَهين بوقت واحد متداخلين والنص القرءاني ذكر مراحل الخلق كلها.

(1) كلمة الإنسان من أَنس يأنس إنساً فهو إنسان، التي تدل على الأُنس بالآخرين وقبولهم والصلة معهم، وهي خلاف الوحشية والهمجية التي هي صفة البشر.